Thursday, March 30, 2017

صحبة الطريق

تخرج بنا السيارة من الاسكندرية، فأتذكر أول مرة خرجت فيها من الإسكندرية. عند ذلك الجزء من الطريق الذي يسبق بداية الطريق الزراعي، امتد الأفق مفتوحا أمامي بلا عوائق؛ سماء زرقاء صافية، وسحب بيضاء صافية. شتّان بين تلك اللوحة المشرقة البديعة وبين الأفق اليوم. يمتد الأفق أمامي الآن ونحن نقترب من غروب رمادي يخلو حتى من روح الشتاء. أفق باهت، بارد، يستدعي بإلحاح تلك الرغبة في سماع أغان من مفضلتي السوداوية. أسحب الهاتف وأسدّ أذني بالسماعات، وأغرق في تفاصيل الطريق تتكشف على كلمات الأغاني. يبدو لي كل الناس في تلك اللحظات وكأنهم في تصالح مع العدمية، وحماس للموت. المشاة العابرون، وراكبو الموتوسيكلات، وسائقو السيارات، وسائقو الشاحنات، وحتى الواقفون المتفرجون على جنبات الطريق. كلّهم يتحرك في طَيْشٍ يستدعي الموت ويهرب منه. على موتوسيكل يمرّ بجانبنا تحمل امرأة رضيعها على ذراع، وبذراعها الأخرى تتشبّث بزوج يتشبّث بذراع الموتوسيكل. يمرّ توك توك بتهوّر بجانب شاحنة، في تماسّ مع الموت لا يتحقق أبدًا. نسبقه فأجد فتاة تجلس بجانب السائق، وثلاثة في المقعد الخلفي، والكل يخرج أقدامه يؤرجحها في الهواء، لا يبالي إن أطارتها سيارة مسرعة. تَعْبُر امرأة الشارع دون أن تلتفت إلينا. نحن تمامًا في مجال رؤيتها؛ أكاد أرى انعكاسنا في ذلك الجزء من حدقة عينها البيضاء الذي يواجهنا خاليًا من المبالاة، ويكاد أن يكون خاليًا من الحياة ذاتها. تَعْبُر بخطوات واثقة، مُثبِّتةً صفحة وجهِها صَوْب شيطانٍ مريد يقبع مختبئًا على الجانب الآخر للطريق. أخافتني عينا تلك المرأة؛ ربما يتنكّر الموت في هيئة عينين بيضاوين تكشفانك في مجال رؤيتهما دون أن تهتمّا بالتحديق فيك حقًّا. أحدّق أمامي بعد وقت فَأَجِد المنظر المألوف لشاحنة ضخمة، بعينين حمراوين، وخطوطُ الزينة الخضراء تومض على جوانبها الأربع. تسحرني فكرة لا تفتأ تراودني كلما ارتحلنا على طريق؛ أن نصطدم بشاحنة وينطفيء كل شيء فجأة. نهاية تليق بطريق عبثي، وعلى شرف تلك الخاطرة ها هي أغنية أخرى تُضفي المزيد من أجواء الرومانطيقية على النهاية الشعرية. تتجمع خطوط تدوينة تريد أن أكتبها عن هذه الساعات في ذهني وأنا أحدّق في ظهر الشاحنة. هل يتحقّق الخيال وتبتلعني عيناها؟ هل إنْ حدث ذلك صرتُ حادثًا عشوائيًّا بائسًا ثم أُنْسى كالكثيرين مِمَّن ابتلعهم الطريق ثم نسيهم؟ هل تضيع خيوط التدوينة دون أن تُكتب؟ ربما تأخذ الطريق بي شفقة ويكتب تلك التدوينة فلا تضيع في هذا الأثير المظلم الكئيب. وددتُ لو أني أحيا بعد الموت دون أن أحتك بالحياة؛ أن أبقى متفرجة، فأرى ما يفعل الناس من بعدي، وكيف تستمر الحياة بدوني، لأن الحياة تستمر بدون الأموات. ولكن هل تستمر الحياة الآن بي؟ أحاول أن أتخيل قصص حَيَوَات الناس من حولي؛ الساكنين في البيوت المشرفة على الطريق، والسائرين نيامًا، والسائقين، والواقفني. أتسائل كيف يمكن أن يتحمل عقل التفكير في التفاصيل الصغيرة للمآسي والأفراح التي يعيشها كل إنسان، في النوايا والهواجس التي يحملها كل إنسان. أحاول أن أتخيل الله مُشرفًا بعلمه على كل هؤلاء ومن سبقهم، فيعجز عقلي عن تخيل طريقة فعالة للإلمام بكل هذه التفاصيل دون أن يُجنّ من الحزن والغضب والقهر، دون أن يطير من الفرح والبهجة. أقرّر أن أنسى، أن لا أهتمّ. كل هؤلاء يَحْيَوْن ثم يموتون. حتى نهاياتهم لا تليق بالحياة؛ يكون الواحد منهم ملء سمع وبصر أحِبَّتِه، ثم ينتهي فجأة بلا إنذار أو تنبيه، ويكون الواحد منهم تافهًا لا يهمّ، وينتهي نهاية درامية تجعل منه بطلًا. تهبنا الحياة نهايات متنوعة، ولكنها لا تليق بكل الحيوات. أتخيّل أن العدل يُحَتِّم أن ينال العِظام نهايات عظيمة، وأن ينتهي التافهون بلا ضجيج، ولكن ما أدراني أن هذا هو العدل؟ يمرّ على يميني قطار، فأتذكر كيف أخبرتني صديقتي عن ابن عمتها الذي عبر شريط القطار بعد موعد عمل، فباغته القطار بأن أطار رأسه. هذه نهاية درامية حقًّا، ولكنها تتكرر كثيرًا حتى أصبحت غير ذات حيثية في الذاكرة. لماذا يستمر الناس في عبور شريط القطار رغم أن القطار يطير الرؤوس؟ أحدّق أمامي ثانية فأرى أن الشاحنة اللعينة لا تزال أمامنا. يتحول العالم كلّه إلى تلكم العينين، تسحرني؛ تصبح كُلَّ الدنيا، حمراء في خضراء. ربما يتنكّر الموت في هيئة جماد لِيَضحك علينا؛ يكاد يُلَعِّبُ حواجبه الخضراء مذكرا إيّاي أنه لا يجيد إلّا لُعبة الحظ. تنقلب سيارة بعائلة فيموتون جميعا، ويبقى بائعو السمسمية الذين يتقافزون بين السيارات. هل يسألون أنفسهم وهم يتقافزون عن جدوى حياتهم والوجود؟ يختار الموت أناسًا لهم أحلام وعائلات وأقساط يدفعونها وأعمال يتبرمون بها، ويختار أناسا لا يمكلون الأحلام. يختار الموت كل الناس، فهو لا يختار حقًّا إلا بالنسبة لنا. ربما اختيار الموت الوحيد هو في حجم الفاجعة التي يحب أن يتركها وراءه. ما الذي سَيَنْقُص من هذا العالم إذا ما مات حلم؟ إذا ما ماتت تدوينة؟ تمرّ بجانبي سيارة من سيارات الربع نقل، حيث يجلس في الخلف رجل ومجموعة أطفال. يقف طفل فضولي مستندا على دعامة السيارة. يقفز بجسده في الفضاء المفتوح مع حركة الطريق. يقفز قلبي رغما عنّي. اللعنة! لماذا لا أزال أهتمّ؟! ينظر إليه الأب هُنَيْهة ثم يأمره بالجلوس في ضجر يكاد أن يكون مرحًا. أنظر إلى الأب ونحن نتجاوزهم. ينظر إليّ ولا يرمش له جفن. نقترب من الشاحنة ذات العيون الحمراء. يضغط السائق الفرامل ليهديء من سرعة سيارتنا، فأضغط أنا بقدمي اليمنى على بدّال بنزين وهميّ. أغمض عيني على العيون الحمراء والخطوط الخضراء. أَسْرِع! هيّا! ينتهي حينها كل شيء فلا أعود أفكّر في كل هذا العبث والجنون! لا أعود أفكر في تدوينات لم تُكتب، وأعمال لم تُنجز، وقلب لم يُعشق، ومآسٍ لم تجد من يحزن لها. لا أهتمّ أن تنالني المنايا خبطَ عشواء. خبط عشواء! لله درّ أبي سُلمى؛ لابد وأنه زار المستقبل يومًا وسار على طريق ما. أفتح عينيّ أخيرًا فأرى أننا تجاوزنا الشاحنة. لقد تجاوزني الموت العابث هذه المرة كما فعل في مرات عديدة. إلى اللقاء إذاً في مرة قادمة.

إن هذا العالم مجنون، وربما نسيه الله حقًّا.


No comments:

Template by:
Free Blog Templates