Saturday, January 3, 2015

شبابيك

أول شباك ..


كان شباك أوضة المسافرين في بيتنا القديم في ليبيا. أفتكر وأنا لسه مكملتش أربع أو خمس سنين، كان لما أهلي يروحوا الشغل، يحطوني أنا وأختي هناك، ويقفلوا علينا .. مكانش في حضانات ولا كانت فكرة جليس الأطفال مطروحة. كنا نفضل في الأوضة دي، كل حاجة مقفولة علينا. المشهد الوحيد اللي أفتكره، كان طاقة صغيرة جدا بين الشباك المقفول والحيطة. كانت الطاقة الرفيعة دي دنيا بحالها بالنسبة لي .. ولإن قدام بيتنا بالضبط كانت المدرسة الإعدادي، كنت أفضل متسمرة قدام الطاقة دي، لا بني آدم يروح ولا بني آدم يجي، لحد ما يجي وقت خروج طلبة الإعدادي من المدرسة، وساعتها أفضل أتفرج على أفواج البنات والصبيان وهم طالعين، بمرايلهم الكحلي في أبيض وشراباتهم البيضا وجزمهم السودا وشنطتهم الملونة، بشعورهم المجدولة وضفايرهم الطويلة، بيضحكوا، بيتهامسوا، بيتكلموا، بيجروا ويتنططوا، ويتفرقوا يمين وشمال .. تهدا العاصفة، ويرجع الشارع ساكت، والبواب يقفل المدرسة، وأفضل أنا متعلقة بالفراغ اللي ورا الطاقة، لحد ما الأسر يتفك ..

فضلت المدرسة هي المكان الحلم، اللي تخيلت إني لما هاروحه هاتحرر، هاتحرك، هاتنطط، هاضحك، هاعرف كل الأسرار اللي بيتهامسوا بيها التلامذة، وهابقى جزء من الأسرار دي كمان، لكن كنت عارفة إني الوحيدة اللي لا هاروح يمين ولا شمال .. فضلت المدرسة هي الدنيا بالنسبة لي، لإني ماشفتش دنيا فيها ناس غيرها، ولما دخلتها، فضلت أطارد الصورة اللي شفتها، وحاولت أكون جزء من التفاصيل المبهرجة ولو على حساب اللي أنا فعلا حاسة إني عايزاه، ولو على حساب الناس الحقيقية اللي تستاهل. فضلت الصورة دي سراب بيشاغلني وعمري ما وصلت له، لإني انشغلت بالعناصر الساحرة اللي فيها على حساب العناصر المؤسسة ليها. الفهم ده جه متأخر قوي، بعد ما بطّل ينفع إني أدخل الصورة صح، لكن كل فهم وله ضرورة، وفايدة، ولو بعد حين.

تاني شباك ..


شباك أوضتي، اللي كنت بانام فيها مع أختي. كان الشباك وراه صندوق، كان هو دولابنا، وفوقه رف، كان فيه كتب. كنت طفلة دخلت الابتدائي وبقيت أعرف أقرا وأكتب. على الرف ده وتحت الكتب، خبيت أول جواب كتبته لربنا، باسأله فيه ياترى يعني إيه ربنا، وازاي أعرف إنه موجود. ورا الشباك كنت أشوف حوش البيت المكشوف. كنت أشوف لمحة من السما؛ طاقة تانية بس أكبر شوية. كنت أشوف كرمة العنب محاوطانا داير ما يدور، كإنها سور بدل السور. لما كنت أفتح الشباك كنت باعرف إن الصيف بدأ؛ في الشتا كان الشباك يفضل دايما مقفول، واللي وراه مجهول. لما كان يجي الصيف، كنت أعمل رف الشباك تسريحة، بقيت بنت بقى وباسرح الشعور وأبص في المراية. كنت باحلم إن في يوم هاتيجي ماما تضفر لي من شعري ضفاير طويلة بتلمع زي ما كنت باشوف زمايلي بيتعمل لهم. كنت أفرد بطانة قماش، وعلى حديد الشباك أسند مراية مكسورة، وحوالين المراية مستلزمات بناتي بسيطة. كنت أحب قوي أمر بصوابعي على أشكال الفيرفورچيه القديم اللي في الشباك. كل مرة كانت تفاصيل الأشكال بتبهرني، دواير ومنحنيات، وهي هي نفس الدواير والمنحنيات مش بتتغير، لكن كان في لمسي ليها حاجة مريحة ومخدرة للأعصاب. يمكن في أسباب بيئية أو معمارية أو حتى خصوصية ثقافية لمدن المتوسط تخلي شعوبه تفضّل المنحنيات الناعمة البسيطة دي على الأشكال الفخمة المدببة اللي باشوفها في شغل الحديد عند بلدان تانية. معرفش، لكن المحصلة إني عمري ما اعتبرت حديد الشباك ده سجن، رغم إنه يشبه حديد السجن، وفضلت دايما أشوفه ملمح جمال فين ما كان. المهم إني بعد كده التهيت عن الشباك، وبقيت أبص في المراية. أبص في المراية من غير ما أفهم يعني إيه جمال ولا يعني إيه حلاوة؛ كنت بس أشوف نفسي، وأكلم نفسي، وبعدين أعاتب نفسي. لما بدء الناس من حواليا يقولوا على "أمل" بنت صاحبة ماما إنها حلوة وزي القمر، احترت .. ليه أنا كمان مش حلوة وزي القمر؟ "ليه يا مرايتي محدش بيقول لي إني قمر؟" تسكت المراية. ياترى المراية هي اللي وحشة علشان كده مش شايفاني ولا بترد عليا؟ لما كنت أتمعن فيها، كنت أحس إن ملامحي بتفهم، لكن مش بتسحر. قدام المراية لا ضفرت شعري، ولا مريت بإيدي في شعري أتلمس منحنياته زي ما كنت باعمل في الشباك الحديد، ولا حد نبهني إن شعري حلو من غير ضفاير؛ ناعم ومتموج زي تموجات حديد الشباك. ماتعبتش نفسي كتير من وقتها مع المراية، وبقيت أتجاهلها، وأتجاهل معاها الشباك .. راح من غير ذنب ضحية ال vanity الطفولية، مع إن تفاصيله كانت حلوة، وبسطتني.


تالت شباك ..


نفس الشباك الأولاني، بس المرة دي كنت في إعدادي خلاص، عرفت الأسرار، وضحكت على الناس وفهمتهم إني باضحك معاهم، والناس ضحكت عليا وكانت بتفهمني إنها بتضحك معايا. حاولت أصاحب الناس اللي اتخيلت إن معاهم مفاتيح الفهم، وأتاري المفاتيح معايا من البداية. لا جدلت شعري ولا ضفرته، ولا اتنططت ولا جريت، وطبعا لا رحت يمين ولا شمال. من الباب للباب كانت رحلتي قصيرة، بعرض الشارع، وكانت في نفس الوقت طويلة، بطول الأيام والليالي اللي كنت أتعذب فيها بين الوحدة في الصيف بعيد عن المدرسة والوحدة في الشتا جوا المدرسة بين التلامذة "اللامعة". لما بقيت في الإعدادي، كانت المنطقة بدأت تتغير، وبدأ يسهر جنب بيتنا السكارى. في ليلة، كنت باذاكر في أوضة المسافرين، وكان الشباك موارب. سمعت أصوات ناس بره، بيهمسوا ويضحكوا، قلت لِمّي عزالك يا بنت وبلاها مذاكرة الليلة. لميت عزالي وبدأت أتحرك، لكن كنت لازم أعدي من جنب الشباك. اتحركت بالراحة علشان مايحسوش بيا، لكن في اللحظة اللي كنت فيها قدام الشباك بالضبط اتمدت إيد سودا زي الصاروخ فتحت الشيش وعدت من بين الحديد. اتجمّدت من الرعب، لكني خرست، وفضلت الإيد تلعب في الهوا زي الحيّة وتحاول تتجاوز دواير الحديد، لحد ما يئس صاحبها وسحبها، قمت في حركة بهلوانية قفلت الشيش الخشب وتربسته، وجريت أهرب من الرعب الأسود ..

من يومها بطلت أدخل الأوضة اياها بعد المغرب، وبقيت أشوفها وكإن ساكنها شيطان .. لحد الآن لما أشوف دواير الفيرفورچيه الحديد في أي مكان أبقى عايزة آخدها بالحضن، وأتتبع تفاصيلها بصوابعي زي زمان، وأقول لها "شكرا ليكي".

رابع شباك ..


شباك أوضة ماما وبابا في شقتنا القديمة في مصر. الأوضة دي كلها على بعضها كانت سحر بالنسبة لي. كانت مكتملة العناصر؛ تسريحة محترمة، ماتشبهش مرايتي المكسورة بأي حال، وعطور وروايح مترصصة على التسريحة، وبروشات إكسسوار بفصوص؛ جزم بكعوب عالية مرمية تحت السرير؛ أباچورات مزركشة عليها رسمة لِبِنْت لعوب بتتكلم في التليفون؛ دولاب كبير من اللي بجد، مش صندوق؛ شيفونيرة عليها أنتيكات وتحت إزازها كروت عليها صور بنات من أيام السبعينات؛ وكل أثاث الأوضة عليه رسومات ومنحنيات، فكرتني بمنحنيات حديد الشباك. كنت وأنا صغيرة أنتهز فرصة إن أهلي ينزلوا لأي غرض، وأجري على الأوضة، وأفتح كل الپرفانات وأشمها، وألبس كل البروشات، وأمشي بصوابعي على تفاصيل كل الرسومات والمنحنيات، وأفتح الدولاب وأشم ريحة الهدوم، وألبس الكعب العالي وأتكعبل فيه، بس عمري ما كنت أقرب على البنت اللعوب. كل مرة كنت أسترق فيها لحظات في الأوضة دي أبقى كإني بازور مقام فيه سر الأسرار. لكن أكتر حاجة هوستني هي الستاير اللي محاوطة الشباك؛ كانت ستاير تقيلة وحمرا، وكانت بالنسبة لي فخيمة، وكان نادر ما الشباك اللي وراها يتفتح. في مرة اتجرأت وفتحت الشباك، تخيلت إني ممكن ألاقي سر جديد أو جنة مفقودة، لكن اكتشفت إن الشباك بيطل على منور صغير، وقدامه على طول بلكونة جارتنا في العمارة، اللي كانت لما تبقى مفتوحة باشوف من وراها عفش شقتهم. كانت أول مرة أعرف يعني إيه "تتلصص من الشباك"، وأول مرة أعرف يعني إيه "منور"، وأول مرة أحس إن أوضة ماما بطلت تبقى سحرية، لإن جارتنا عندها حاجات زي هنا، وأول مرة أنتبه فيها لإني باهتم باللامع والمزخرف، وماشوفش التعاسة والقسوة اللي ممكن تكون متدارية وراه. كان أول شباك مايكونش وراه معنى، أو يمكن المعنى كان إنه الشباك اللي عرفني إن مفيش سحر؛ كإنه المفتاح اللي فك طلاسم التعويذة.

من يومها بطلت أجري على التفاصيل وأنبهر، لكن لازلت أحب الستاير الحمرا التقيلة، وجو المخادع الفيكتوري، ورسومات الخشب العتيقة، والأنتيكات، وندمت أشد الندم إن البنت اللعوب اللي كانت على شاپوه الأباچورات ضاعت لما نقلنا بيتنا الجديد. يمكن دي كانت الحاجة الوحيدة الحقيقية في الأوضة.

خامس شباك ..


وخلاص آخر شباك؛ بعده كل الشبابيك بقت تشبه بعضها. حتى الشباك ده كان يشبه شباك قديم. الشباك ده كان في شقتي في كندا؛ شباك مودرن إزاز، مفيهوش حديد ولا منحنيات، بس طبقتين إزاز علشان يعزلوا البرد، وكلهم في ذات الوقت برود وجمود. الشباك ده أول شباك شفت منه الثلج بيتساقط ويتكوم طبقة فوق طبقة قدامي. منظر حلو، لكني كنت بطلت أتسحر خلاص. والشباك ده برضه شفت من وراه تاني راجل سكران يتعرض لي شخصيا. ده كان في ليلة من ذات الليالي الباردة، وساعة الفجرية بدأ غُنا يدخل في الحلم اللي كنت باحلمه، لحد ما صوت الغُنا يعلى ويبقى مُلِحّ. اتنبهت وقمت "أُصِيخ" السمع علشان أفهم أنا باحلم والا في حد فعلا بيغني، وسمعته، بيغني وبينده عليا من ورا الشباك. في ثانية كنت نطيت من مكاني ومسكت موبايلي وبقيت بره الشقة. كنت هاجري لكن قلت ماهو هايجري ورايا، رجعت خطفت المفاتيح وقفلت الباب وجريت أكلم صاحب البناية، قال لي كلمي الشرطة، وكلمت الشرطة، وكلمت عبد الحميد لإنه كان جاري في نفس البناية. فضل عبد الحميد واقف معايا لحد ما البوليس جه. لما راحوا يشوفوا الراجل ده إيه، لقوه واقع في غيبوبة؛ واحد سكران مش من البلد، وحظي إنه تاه وحظه جابه قدام شباكي علشان يغني، ويكرهني أنا في الشبابيك إلى الأبد. 

ميزة الحادثة اللي ارتبطت بالشباك ده، إنها كانت أول مرة أُجبَر فيها إني أتعامل مع موقف صعب زي ده بعقلانية وبدون انفعالات الميلودراما المصرية. صاحب البيت، مايك، جالي تاني يوم يطمئن عليا، وقال لي "أنا مارديتش عليكي بإني أكلم البوليس أو أنزل شخصيا لإنها مشكلتك ولازم تعرفي تتعاملي معاها بنفسك." حقيقي يومها فرق معايا هدوء أعصابه وحرصه على إني أتصرف باستقلالية أكتر وأبطّل شغل الدراما عمال على بطال. فرق معايا كمان هدوء عبد الحميد ومساندته، اللي كانت الجسر الصلب اللي مهّد لي الانتقال السلس بين التفاعلين الدراماتيكي والعقلاني.


في نهاية الأمر، بطلت أحب أبص من جوه شبابيك بعينها، وأستنى اللي براها يبسطني أو يخوفني، أو يلهمني حتى إني أحلم بطاقة نور أو إفراج. دلوقت أنا خرجت، بقيت حرة، وأفضّل دلوقت إني أتفرج من الشارع على الشبابيك، وأسأل نفسي: "ياترى كم من أسرار وحكايات وأحلام وتطلعات ومخاوف مخبية وراها كل دي الشبابيك؟" حتى لما رحت اسكندرية وبصيت من شباك الأوتيل على البحر، كان البحر والبراح في البؤرة. ساعتها اتأكدت إن الشباك فقد كل قدرة على إنه يطوق منظوري ويحدده؛ تاه في الخلفية، وأصبح هو والظلمة واحد.

منير كان خايف من اللي بره الشبابيك، لكن الدنيا بقت بالنسبة لي كلها شبابيك، وفهمت إن زمان محدش كان شايف فين مكاني علشان كنت ورا الشبابيك، علشان كده لازم أطلع، وأفتكر الصورة الأولى وأجري، أتنطط، أضحك، أتعلم، وأبطل أتوِهم بالسراب، والأهم: أبطل أخاف.


Template by:
Free Blog Templates