Friday, May 16, 2014

أحلام بِتْفَسَّرْ

أنا باحترم أحلامي جدا. أحلام الليل، وأحلام اليقظة، لكن معنديش لسه أحلام للواقع.

تقريبا مفيش ليلة عدت عليا في حياتي من غير ما أحلم. معظم الوقت بافتكر أحلامي، ومعظم الوقت أحلامي بتكون فانتازيا ماتخطرش على بال حد. باحب أحلامي حتى لما بتخوفني، وباحبها حتى لما مش بافهمها. زمان كنت أصحى وأدور على تفسير الحلم، في الكتب، وبعدين على الإنترنت، بالعربي، وبعدين بالإنجليزي. كنت متخيلة إن الحلم رسالة من ربنا لازم أفك شفرتها علشان أفهمها وتنوبني فايدتها. بعدين اقتنعت إن الحلم رسالة مني ليا. يمكن رسالة من "أنا" اللي عاشت في الماضي، ويمكن من "أنا" اللي مستنياني في المستقبل. المهم إني في الحلم باكلم نفسي. رغم كده، مش بافهمني في أوقات كتير، ولا باقدر أفك شفرة الرسالة. أحلامي في العادة ليها ثيمات محددة. لما رجعنا مصر واستقرينا في شقتنا، كان الحلم دايما في بيتنا في ليبيا، وكان دايما كئيب، وكان دايما فيه شجرة العنب اللي كانت مزروعة في ركن البيت وفروعها مظللة داير ما يدور حوالين الحوش. دايما كنت أبقى فوق السطح، ودايما كان يبقى الوقت ليل، ودايما كان يبقى فيه نجوم كتير، زي ما كان بيبقى منظر السما في الحقيقة، بس دايما كانت النجوم موصولة في عقد هنا وسلسلة هناك، زي رسوم الأبراج الخيالية اللي بتوع الفلك والبخت حافظينها. لما نقلنا بيتنا الجديد في مصر، اتنقل الحلم لشقتنا. الشقة دي على صغرها وموقعها السيء وسط البناية كان ليها ذكريات حلوة، ويمكن علشان كده كانت أحلامها فيها عنفوان، بس كانت الثيمات تقليدية. دايما كنت أبقى في عربية (وأنا مبعرفش أسوق، وإن كنت وقتها عارفة الخطوات نظري)، ودايما بتضطرني الظروف إني أسوق العربية، ودايما عقلي بيحاول جهده يفتكر خطوات السواقة وينقلها لأعضائي، ودايما في حاجة بتجري ورايا وتحفّزني إني أهرب، ودايما الحلم يخلص قبل ما أوصل للهدف، اللي بيبقى غامض وهُلامي. تطوّر الموضوع لما اشتغلت، وبقيت أحلم إني طالعة سلالم، بس مش شايفة غير السلّمة الجايّة، وكلّ ما فوقها فراغ. طب ازاي أطلع السلمة دي ومفيش بعدها غير الفراغ؟ برضه كنت أطلع، وفورا ألاقي السلمة اللي بعدها اتجسدت. كنت أفضل أطلع لحد ما أفوق من الحلم. السلالم تطورت بعد كده وبقيت أشوفها كاملة، لكن بتلف في دوّامة مابتنتهيش؛ أطلع علشان أنزل، وأنزل علشان أطلع. حاجة كده تشبه سلالم إيشيريان*. الغريبة إني كنت باوصل لفوق في نهاية الحلم. فوق ده يبقى شقة حد من الأقارب أو الأصحاب، مكتب مدير، سطح، إلخ، المهم إنه مكان تنتهي عنده الرحلة.



العربيات والسوّاقة والسلالم (والأسانسيرات في أحيان نادرة) خدت حيّز كبير من أحلامي لمدة مش قصيرة، وكانت بتتطوّر مع الوقت لأحلام أغرب وأعقد، لدرجة إنها كانت بتسيطر على تفكيري، وبدأت أكتبها علشان أنساها. ابتدت بعد كده الأحلام تخرج من دايرة النمطية وتبقى غير تقليدية بالمرة، ولمّا كنت أحكيها للناس يتندّروا عليا. مثلا حلم القهوة واللؤلؤة، اللي فيه أنا ماشية في شوارع مدينة بادوّر على محل معين قالوا لي إنه بيبيع لولي. لما بلاقي المحل، صاحبه بيستقبلني بابتسامة، وبيسألني: "عاوزة إيه؟" "عاوزة لؤلؤة بيضا صافية، وقالوا لي انت الوحيد اللي تقدر تعملها لي." يرد صاحب المحل: "بس أنا معادش عندي لولي أبيض!" فأنا أتوتر، ومعرفش إيه اللي مفروض أعمله علشان أتحصّل على لؤلؤة بيضا، يقوم صاحب المحل يقول لي: "أنا أقدر أقول لك تعملي واحدة ازاي بنفسك. هادّيكي كنكة قهوة، ولما توصلي البيت، هاتعملي فنجان قهوة عادي جدا في الكنكة دي، وتفضلي تقلبي البن، ومع الوقت هتلاقي كورة بيضا بتتكوّن في الكنكة. دي هاتكون اللؤلؤة بتاعتك. بس انتبهي، لإنك لو رفعتي اللؤلؤة من كنكة القهوة قبل الأوان، اللؤلؤة هاتتفتّت لحبات سكر! وخللي بالك، إن كنكة القهوة دي مش بتعمل غير لولية واحدة..". أبصّ لصاحب الدكان شوية، ولكنكة القهوة، وآخدها وأنا مبسوطة، وأروح البيت علشان أتبع الوصفة. أفضل أقلب البن في الكنكة، وأشوف الكورة البيضا بتتكوّن جوّه فعلا، وانبسط، بس فجأة أسأل نفسي: "أنا معرفش إمتى الوقت المضبوط اللي أرفع فيه الكورة البيضا! ازاي نسيت أسال الراجل السؤال ده؟!" وتبدأ إيديّا تترعش وهي بتقلب، لكن أقول لنفسي في استسلام: "هاجرب حظي، إيه هايجرى يعني.."، وأسحبها بالمعلقة بالراحة. اللؤلؤة أهي، بتلمع في النور! ومش مهم إنها مش منتظمة الشكل، ومش مهم إنها تشبه السكر، وإن السكر برضه ممكن يبقى كورة، وبيلمع في النور. الحلم ده كان في 2009، وكانت كنكة القهوة دي بالنسبة لي زي مصباح علاء الدين. أنا باحب حدوتة مصباح علاء الدين جدا، وبقى عندي كده حدوتة الكنكة..

أما أغرب حلم حلمته فكان في 2011، وكان في طيارة، وكان على جزئين، حلمت بالجزء التاني الأول، وصحيت، ومعجبنيش إني مش عارفة الحلم ابتدا ازاي، قمت نمت تاني، وحلمت بالجزء الأول! الحلم بدأ في النص، بإني في طيارة فخمة، ومعايا زوجة سفير، وبندوّر على ناس، منهم جوزها وأبويا. فجأة بنلاقي جثة، وبيخطر في بالي إنها لواحد أعرفه في الحلم، إسمه إسلام، شعره أشقر وطويل وعلى شكل ديل حصان. أخاف، وأبقى عايزة أخرج من الطيارة، بعدين الست يبدأ يترسم على وشها خطوط سودا، زي ماتكون بتتلاشى. أبص من شباك الطيارة، وألاقي  كل الناس اللي واقفين بره زيها، بيتحولوا لبقايا. كل ده مش مهم بالنسبة لي، المهم إني ألاقي أبويا. باخرج من الطيارة، وألاقيه. بقايا. أصحى من الحلم مقبوضة ومتضايقة، وعايزة أفهم. لكن أرجع أنام تاني، يقوم يبدأ الحلم من أوله. أنا وأبويا والشاب اللي اسمه إسلام، اللي بشعر أشقر وديل حصان، واحنا ماشين في شارع. في اللحظة دي في الحلم أحس إنّ ورايا حاجات لازم تتعمل، بس قلقانة على والدي، أقوم أطلب من إسلام ده إنه ياخد باله منه ويتمشى معاه لحد ما أنا أخلص اللي ورايا. يوافق على مضض، وياخد أبويا من دراعه، وأشوفهم ماشيين قدامي. أخلص أنا الحاجات اللي كان لازم أعملها، وأرجع أدور عليهم، أقوم ألاقي أبويا قاعد لوحده على بنش، وإسلام ده بيلعب في مكان بعيد شوية. أزعق فيه، يرد عليّا إنه مش مهتم ياخد باله من راجل كبير في السن. أمسك دراع أبويا وأحاول أمشيه، بس مابيرضاش. عايز يفضل مكانه، قريب من الشاب. أقول لهم طيب أنا عندي طيارة، ملكي، تعالوا زوروني في الطيارة. بعدين بلاقي نفسي في الطيارة، وهم جايين فعلا يزوروني، وراكبين عربية علقانة في زحمة السير. شايفاهم من شباك الطيارة، وشايفة الناس اللي سايقة، كإنهم بيهربوا من حاجة. كلهم مزنوقين في الزحمة ومحدش عارف يهرب من "الحاجة" دي. شايفة أبويا فجأة بيبص على حارة على يمين الطريق مش زحمة، وبيقول لسواق العربية يمشي فيها علشان يوصل للطيارة. بيمشوا في الحارة دي لحد ما يوصلوا للطيارة، بس أنا مش شايفة غير أبويا، والشاب بيختفي. في ناس كتير ملمومين حوالين الطيارة، ووالدي بيحاول يندمج معاهم، وبيقف يتكلم مع سفير ومراته. أنا برضه باتكلم مع الناس، بس في حاجة لازم أعملها جوّه الطيارة. فجأة باشوف من الشباك مطر حمضي نازل على الناس، والناس بتتحرق وتتلاشى. معرفش ليه ده بيحصل، بس بارجع أشوف المشهد اللي بدأ بيه الحلم. الحلم ده الخطوط العريضة بتاعته بترجع تتكرر تاني في 2012، بس المرة دي أنا وأبويا ماشيين في الشارع بندوّر على "الحكمة"، وبنلاقي بدالها جزّار عارض "لحمة" فاسدة. بنجري برضه في عربية على طريق (بس أنا في العربية المرة دي مع والدي) وبنحاول نلحق معاد طيارة وراجل لازم نقابله في المطار. بنوصل، وأنا باتوه وبلاقي نفسي عند البوابة الغلط، والبوابة زحمة. فجأة البوابة بتفضى، وباشوف الراجل اللي كان مفروض نقابله عند البوابة اللي بعدها، وبنستنى علشان نركب الطيارة.

تبدأ الطيارة من وقتها تظهر في أحلام متفرقة، لحد ما تتجلّى امبارح، وأنا ماشية في الحلم مع ناس في الجامعة، وبنقف علشان الناس دول يكلموا ناس تانيين. أبص أنا في السما، ألاقيها بيضا، وألاقي الشمس متصدّراها، وَهَج أبيض، كورة مدورة، وكاملة، وفي وسطها بالضبط، ألاقي طيارة، دايرة الشمس محاوطاها، في لوحة جديرة بمشهد سينما. الناس تخلص الكلام، وأرجع أنا ملهوفة على أوضة مقيمة فيها في فندق ما جنب الجامعة علشان أكمل فرجة على المنظر ده. أجري على التّراس، ألاقي الشمس راحت، وبدل منها يظهر لي قمر، مكتمل، نوره سلاسل فضة منعكسة على كل حاجة حواليّا، وفيه حد عالباب؛ راجل واقف بيسأل سؤال. دايماً في الحلم فيه راجل، بيسأل، أو منتظر، أو عنده إجابة لسؤال محيّرني.


قهوة، ولؤلؤة. عربيّة، وسلالم، وطيّارة. شمس، وقمر، وعقود من النجوم. فضاء، وسفر.

زمان كانت العربية هي محور أحلامي، والعربية فسّروها إنها "الحياة"، والطريقة اللي بنتعامل بيها مع العربية هي الطريقة اللي بنتصرف بيها في حياتنا. بكده يبقى أنا كنت زمان مجبرة إني أعيش حياتي من غير ما أفهم ليه، وباتصرف تحت وطأة الضرورة، وبدون ماكون شايفة هدف مفروض إني أوصل له، و"خط النهاية" مش موجود. مابعرفش "أسوق"، لكن عندي فكرة عامة، والفكرة دي هي اللي بشكل ما بتمكّنني إني أمشي في الطريق اللي قدامي، رغم إني دايما باشكّك في مطابقة مفهوميتي دي للواقع العملي. المهم إني مفيش مرة حلمت فيها إني ماسقتش ووقفت مكاني واستنيت إيه الأسوء اللي ممكن يحصل. يعني متبرمجة على المعافرة حتى في نومي. هو الإنسان لو فكّر إنه يتحدى "برمجته" ويبطل "يسوق" ويقف يستنى اللي ممكن يحصل، إيه اللي ممكن فعلا يحصل؟ طيب لو كنت في مرة قررت أبطّل أطلع سلالم الحلم، ووقفت، أو نطّيت حتى في بير السلم، إيه اللي كان ممكن يحصل؟ طلوع السلالم في الحلم فسّروه بإنه الفهم والحكمة والتنوير، الخروج من العمق والتفاصيل للسطح والرؤية الكلية للأمور. أنا في الأول كنت باطلع السلّمة وأنا مش عارفة في سلمة بعدها أو لأ، زي ما كنت باسوق من غير ما أبقى متأكدة من خطوة السواقة الجايّة، ومن غير هدف في الآخر برضه. بعدين بدأت مرحلة إني أدور في سلالم لا منتهية، أطلع وأنزل، ومابقاش عارفة أنا هاوصل والا لأ. وزي ما الطلوع رمز للوصول لفهم أشمل، النزول برضه رمز لفهم أشمل، لكن للذّات، مش للموجودات. يمكن تركيز الأحلام على "الطلوع" ودمج "النزول" في دوامة من الحركة الدائرية بيعكس خوفي من مواجهة نفسي وتحليلها في البداية، واستعدادي المتردد إني أعمل ده في نهاية المطاف. نفسي بتكلّمني من خلال الأحلام، وبتقول لي: "في النهاية انتي لازم تسمعيني وتتفاهمي معايا، وتعالجي المشاكل اللي بيّا، وتتفقي معايا ازاي هانكمل مع بعض بشكل صحي وسليم، علشان مش كل شوية هاطلع لك في الحلم وألفّفك حواليا." 

بدأ يبقى فيه "خط نهاية" في المرحلة دي من الأحلام؛ أنا بشكل ما باوصل لـ"مكان" أنا مستهدفاه. الموضوع بالنسبة لي أصبح منطقي. طول ما مفيش هدف، مفيش شكل للمسار اللي مفروض أمشي فيه، في بس إحساس بإني أعيش "اللحظة" - عتبة سِّلِّمة، أو دوسة بنزين - وماقلقش على اللي ممكن يجي بعدها. يمكن لما بدأت أكبر وأشوف الحياة من منظور أوسع شوية، وأفكر في المستقبل ككتلة واحدة مش كأيام منفصلة، يمكن ده الوقت اللي بدأت فيه الأحلام تاخد شكل فنتازي ومُجمل؛ السلالم تبقى مكتملة، ومكان النهاية يبقى فيه شيء من الوضوح والتحديد، ولمّا أحلم بجزء أقوم مايعجبنيش وأرجع أكمل الحدوتة علشان الصورة تبقى كاملة وواضحة في ذهني، والمواجهة مع النفس تبقى حتمية. وقتها بدأت الطيارات تظهر، والطيارة تفسيرها الارتقاء، والمنظور العلوي، والحرية، وإدراك أقوى للنفس. فاضل بس إني أحلم إني باسوق الطيارة، علشان أعرف ساعتها إن رحلة الوعي والتنوير اكتملت، وإني متحكمة أخيرا في مصيري، وعارفة أنا عايزة إيه وواثقة من قراراتي اللي هاخدها علشان أعمل اللي أنا عايزاه. هكذا تقول التفاسير.

الرمزية اللي في أحلامي بطّلت تقلقني؛ بطّلت أحاول أفهم ليه المطر حمضي، وليه أبويا بيظهر كتير، وليه فيه لولي ممكن يطلع لي من كنك القهوة، وليه فيه شمس وقمر ونجوم. المهم إن كان فيه عربيّة، وبعدين بقى فيه سلالم، وبعدين الحكاية دخلت في طيارات؛ كنت بامشي على طريق، في مسار أفقي، وبعدين بدأت أطلع لفوق، في مسار شبه عمودي، ودلوقت أنا عايزة أفضل فوق، وأكمل مسار أفقي، في عنان السما، وفي اتجاه الشمس.

 
 
 *Escher Stairway, or Penrose Stairs.

Wednesday, May 7, 2014

حكاياتك يا اسكندرية

مش عارفة ليه حسيت إن الإجابة هاتكون في اسكندرية.

أنا السؤال والجواب؛
أنا مفتاح السر، وحل اللغز.

هل كان أسامة أنور عكاشة بيجاوب في زيزينيا على السؤال اللي حيره في أرابيسك؟ اسكندرية. الميتروپوليس. المدينة اللي عاشت قرون وعصور تتشيك وتتنسي، وتتهدّ وتتبني. اسكندرية طبقات؛ طبقات من الناس، والمعمار، والثقافة، والتاريخ، والجغرافيا. طبقات من الوعي. مصر صغيرة، بس فيها مسحة سحر مش موجودة في باقي مصر. اسكندرية مش فرعونية الهوى، ولا إسلامية الهوى؛ "اسكندرية فلسفيّة". والاسكندرانية فلاسفة؛ سَمْتُهم هادي وراسي، حتى البيّاعين، اللي شغلتهم محمومة بطبعها، حاسّين بذاتهم الفلسفيّة. الناس قاعدين في الدكاكين في صمت، بينبسطوا في صمت، مزنوقين في المواصلات في صمت. صمت وهدوء وتأمل. "اسكندرية مفكّرة". ممكن يكون البحر هو اللي ادّى أهلها مساحة التأمل دي. مش باشوف المساحة دي في القاهرة؛ القاهرة اللي باحبّها جدّاً كلّها دوشة وصوت عالي وإيقاع محموم وخناق على السلّم الاجتماعي. يمكن الاسكندرانية حاسين إنهم بالفعل على قمّة السلم ده، فكرياً وثقافياً إن لم يكن بالضرورة مادياً. اسكندرية مفيهاش "business district" بالمعنى المعروف، ولا أنا حسّيت إن النشاط التجاري فيها بيجري علشان يلحق الدنيا من حواليها. الناس بتقدّر أجازة يوم الأحد وشم النسيم، وسايبين الدنيا رايقة وقافلين محلاتهم وبيتفسحوا عالبحر. في كل مكان تاني الناس بطّلت حتى تاخد أجازة الأعياد وتسيب ساحة المعركة الاقتصادية وترتاح شوية. يمكن قدريّة الصيد واعتماده على عوامل مش بإيد الصيّاد صبغت المدينة كلها بطابع التسليم ده، اللي بيقلّ كل ما بتبعد عن البحر. واسكندرية عاصمة علم وفلسفة، مش عاصمة حرب وتمترس وسلطة. قلعتها صغيرة وهادية ومفيهاش ملامح العظمة الكلاسيكية بالمقارنة مع القلاع الحصينة التانية. قلعتها قصاد جامعتها، والاتنين على طرفي كورنيش عامل نص دايرة عبقري. ماشفتش حتّى ظواهر دروشة وانذهال عند المرسي أبو العباس، ولا ضجّة وصخب عند المراجيح اللي اتنصبت جنبه وكانت الأطفال بتلعب فيها بمناسبة شم النسيم، ولا خناق وزعيق في الشوارع. احتمال يكون توقيت الزيارة فرض الصورة الذهنية دي عندي، لكن إحساسي كان إن اسكندرية مدينة التوازنات المذهلة. مفيش اكتساح أو نصر متحقق لفكرة، ولا عرق، ولا دين، ولا أسلوب حياة، ومفيش انعزال بين كل دول وبعض.

البحر هو الإجابة؟ البحر اللي كان حلقة الوصل باليونان - مهد الحضارة ودرّة الفلسفة. اليونانيين مَعْلَم "أصيل" حاضر في كل حاجة في اسكندرية - أسماء الشوارع والأحياء، شكل المباني، أعرق المحلات والقهاوي والأوتيلات، الراجل اللي قعد على الطرابيزة جنبي يوم ما كنت راجعة وكان بيتكلّم في الموبايل باليوناني وبعدين يطلب الشاي بالمصري. القاهرة معالمها التاريخية في المعظم إسلامية، والجيزة - بوابة الصعيد - بتبدأ فيها معالم اليدّ التقيلة للحضارة الفرعونية، لكن مش اسكندرية. ممكن يكون في حاجة اسمها الحضارة السكندرية؟ المهم إن البحر حاضر. البحر حاضر حتى بين المباني، كنت أحس إن الناس وهي بتمشي أو راكبة المترو بتتلفت دايماً في اتجاه البحر علشان تتأكد إنه موجود لسه بين المباني ومفيش حد هايسرقه أو هايخبيه منهم. والبحر حاضر على واجهات المباني، حتى اللي البحر بياكله من المباني بيخليها جميلة، بصمة بيتباهى بيها المبنى ويقول "أنا هنا قدّام البحر، شاهد عالبحر، وقيمتي من البحر".


والفلسفة حاضرة، في الناس، وحتى في المباني وديكورات المحلات. كل مبنى شخصيّة مستقلة، لكن في نسق عام مريح وباعث على السكينة. حتى المهجور منها له سحر؛ نداهة بتهمس وتقول لك "تعالى، أنا جوايا حكايات وكنوز وحواديت.. بس اسمع.. تعالى وانا هاونسك، ومش هاسيبك تخاف ..". طول عمري لما بازور مدينة جديدة بانبهر بمبانيها القديمة وآثارها قبل طبيعتها وحداثتها. الحيطان بتبقى شاهد على الحوارات والحكاوي القديمة، وممكن تكون بتتكلّم وترَدِّد اللي اتقال من قديم الزمان، بس محدّش بيقف جنبها ويونِّسها ويسمع لها. الزخارف والطَيّ شواهد على أيادي الصنايعية اللي نحتت بفن ودقّة وسيميتريّة حكاوي ورموز وشخصيات الصنايعي قبل المُلَّاك. البلكونات بتحكي عن مين من اللي سكنوا بيوتها كانوا محافظين ومش عايزين رجليهم تنكشف على الشارع ومين كانوا مُتَبَسِّطين ومش خايفين من المشاركة، مين كانوا أرستقراطيين ومتحفظين وتقليديين ومين كانوا ولاد بلد كل حاجة عندهم واضحة ومش مستاهلة مداراة وتزمُّت. أنا عندي نظرية لطيفة هي إن البني آدم يقدر يعرف شخصيّته من بلكونته، أو من الطريقة اللي بيتفاعل بيها مع بلكونته؛ اللي بيتفرّج عالناس، اللي قاعد على كرسي البامبو بيشرب سيجارة وكوبّاية شاي، اللي عامل جنينة وقفص عصافير، اللي بيقف في الركن خايف من العلو لو البلكونة مكشوفة، اللي بيعمل بلكونة واسعة ومقفلة، واللي بيعمل بلكونة ضيقة ومقفلة، واللي بيعمل بلكونة حديد ضيقة، واللي بيقفِّل بلكونته بستاير.


المباني في اسكندرية بتحكي، مين كان صعب عليهم يسيبوا المكان تكتسحه المدنية والعمران الجديد، ومين الظروف كانت أقوى منهم وزقتهم بره المكان، وفضل المكان أطلال خربة متهدّمة، لا هو مسكون ومجبور خاطره ومجبورة جدرانه، ولا هو ممسوخ بشخصية الطوب الأحمر القميئة اللي مفيهاش أي مَعْلم ذوق أو تفكير أو تعب. طيب مش يمكن وقت ما كانت المباني الساحرة دي لسه برونقها وزهوتها الأولى اتقال عليها من معاصريها زي ما أنا باقول دلوقت على الطوب الأحمر؟ يمكن كمان 100 سنة يبقى الطوب الأحمر ده "فن" و"شاهد" على زخم التاريخ والمرحلة وحكايات الناس. حتى أطراف المدينة اللي شوهها الطوب الأحمر كان فيها مباني بتحاول تستنسخ الشخصية المعمارية السكندرية القديمة، لكن الدهان جديد، والناس غير الناس، والهواء غير الهواء، والبحر مش طايل يرسم عالمعمار الجديد خطوطه السريالية ويبصم عليها بالختم السكندري. المباني حلوة وفيها فن، بس هي في عينيّا زيّ كعك العيد الآلي؛ شكله جميل ومنتظم وطعمه لطيف بس لا يمكن يكون زي كعك البيت بتاع زمان اللي كانت تيتا بتعمله. في وسط البلد العتيق، كل عمارة فيها روح، فيه صور قديمة مرسومة في خيالي لحكايات سرّية اتحكت في كل بلكونة وشبّاك ومدخل سِلِّم. كل قهوة فيها شواهد على خناقة ولعبة، وعلى طرابيزاتها وشيشاتها وعِدِّتْها بواقي لتاريخ اتخلق واتناقش وبقى له حيثية، وعلى كراسيها خيالات سراب لِنَاس ركنت للمرة الأخيرة قبل السفر، وناس ركنت للمرة الأخيرة بعد السفر.

لما زرت اسكندرية من أسبوعين، كان الوقت شم نسيم وعيد. حرّ وشمس مش مستخبية ورا أي حاجة. بعد ما رجعت بيومين، حلمت إني في اسكندرية تاني، اسكندرية تانية. اسكندرية زي ما الاسكندرانية بيحبوها؛ مغيمة، الشمس مستورة ورا السحب، والمَطَرة بترخّ على خفيف، البحر رمادي في أبيض، مش فرحان لكنه مش غضبان، وأنا بامشي عالكورنيش، في عكس الاتجاه اللي مشيت فيه لما زرتها. لما زرت اسكندرية من أسبوعين، مشيت ناحية الغرب، ناحية المرسي أبو العباس والجمرك والقلعة، لكن في الحلم، كنت بادية من هناك، وماشية ناحية الشرق والمكتبة والكافيهات. الرمزيّة اللي في التناقض ده كانت متجليّة في الحلم: الشرق مفروض كان هو مصدر الغزو لمصر، والغرب كان مصدر التحضّر والعلم، تقوم المكتبة تبقى في اتجاه الشرق، والقلعة تبقى في اتجاه الغرب. المناطق الراقية تبقى في اتجاه الشرق، والمناطق الشعبية تبقى في اتجاه الغرب. لوهلة وانا باكتب الكلام ده دلوقت اختلط عليا الحلم بالحقيقة، ومابقيتش عارفة أنا فعلا زُرْت اسكندرية من أسبوعين وباحلم دلوقت، والا كنت باحلم من أسبوعين والحلم هو الزيارة الحقيقية. المشهد في الحلم كان يشبه بالضبط أول مرة تطأ فيها رجلي أرض اسكندرية، يوم ما وصلنا مصر بعد رحلة برّية طويلة ومُضنية قضينا فيها تلات أيام بلياليهم في السوپرچيت اللي رجّعنا عودة نهائية من ليبيا علشان نستقرّ في أرض الوطن. السوپرچيت كانت محطته الأخيرة "محطة الرمل". لما زرت اسكندرية من أسبوعين لفّيت في المحطة شوية على أمل إني ألاقي المكان اللي السوپرچيت نَزِّلْنا فيه، ولمّا غلُبت، سألت راجل وقور على مدخل عمارة في الرمل: "كان فيه هنا مكان السوپرچيت اللي جاي من ليبيا كان بيقف فيه، فاكره؟" قال لي إن الأتوبيسات كلها بتقف في سموحة دلوقت. قلت له: "فاهمة، أنا باتكلم عن عشرين سنة فاتوا." تأمل في وِشِّي كده شوية علشان يتأكد إني مش عبيطة، وبعدين قال لي: "آه، تقصدي المقرّ القديم بتاعهم، هو هناك، ورا الغرفة التجارية." رحت "هناك" دي وأنا خايفة يكون فيه بوّابة زمن مستنياني تاخدني لعشرين سنة ورا ومارجعش تاني .. أنا مش عايزة أرجع لِوَرا، مش عايزة أرجع للماضي؛ أنا عايزة بس أتفرج عليه. أنا كنت دايماً عايزة آلة زمن، مش علشان ترجّعني أعيش التاريخ من أَوِّلُه، لأ علشان بس أتفرج على التاريخ والحوادث واكشف الأسرار وأعرف الحواديت. كنت عايزة أرجع أشوف المكان اللي كان شاهد عليّا في أكتر فترة كنت فيها هشّة ومتلخبطة ومش فاهمة حاجة. مشيت شوية، وبعدين شفت بقى "الخطوط الليبية". المكان كان هناك.. احنا كنّا هناك من عشرين سنة، رجلينا سلّمت على تراب البلد هناك لأول مرة وهي عارفة إنها مش مِفارقة تاني. يوم ما وصلنا، كان الوقت فجر، ومكانش فيه أماكن كتيرة مفتوحة تخدم الزباين. يومها اترصّصنا على كام كرسي وطرابيزة جنب بيبان قهوة البورصة (أو التجارية مش هاقدر أفتكر بالضبط). لسه فاكرة مشمّع الطرابيزات. لسه فيه قهاوي هناك بتستخدم المشمع القديم التقيل ده، اللي كله نقوش وألوان، وطَفْيِ سجاير.



فاكرة منظر والدي وهو بيشرب السيجارة وساند بظهره على باب القهوة القديم. فاكرة إن جو الفجر الرمادي ده خَلَّى المدينة كلها تبان مسحورة وأثيريّة في عينيّا. كنت شامّة ريحة الرطوبة التقيلة - احنا كنا وصلنا في أكتوبر. نفس الريحة دي دوّرْت عليها يوم شم النسيم في اسكندرية مالقيتهاش. يومها كان الشارع حوالين البورصة والتجارية والخطوط الليبية غرقان في الشمس، شمس صريحة وقحة، الشمس اللي باكرهها. اسكندرية مش مفروض تكون غرقانة في النور الوقح ده كده! "اسكندرية فلسفيّة"، والفلسفة بطبيعتها سرّ الوجود، وبتتكشّف للعارفين والمريدين بالتدريج وبالتعب، مش بتحرقهم بوهج النور. اسكندرية في نور الشمس غريبة على عيني. الشمس حقيقة بتبدّد أي وهم، وتشقّ أي ظلمة، بتبخّر أي رطوبة وخيالات. اسكندرية مش كده. يمكن ده سبب إن أهلها مش بيحبوها قوي في الصيف. يمكن اسكندرية علشان كده هي السؤال والجواب؟ بتحيّرك وترسّيك؟ بتلخبطك وترجع تطمّنك؟ أوروپية بس مصرية، بس ولا هي صميمة المصرية زي القاهرة والجيزة ولا هي صميمة الفَرْنَجة زي شرم الشيخ والغردقة؟ يمكن علشان كده لا القلعة كسبانة ولا المكتبة كسبانة في أفق دايرة الشط السحرية اللي في وسط البلد، والكسبان هو اللي يقف في النص؟

ليه رحت أدور على مكان اللقاء الأول؟ أنا عمري ما اتمنيت من نهاريها إني أرجع اسكندرية تاني، وحتى لما أختي دخلت كلية الفنون الجميلة في اسكندرية عمري ما اتلهفت على الزيارة ولا افتكرت لحظة اللقاء الأول وحبيت أسترجعها. كان هوايا دايماً من يوم مارجعت مصر هو القاهرة، وقلبي كان دايما متعلق بيها وبتاريخها. ليه بعد السنين دي بدأت اسكندرية تراودني عن نفسي وتقول لي "تعالي، الحل عندي، المتعة عندي، الصفا عندي"؟ في آخر اليوم اللي زرت فيه مكان ما رسينا في مصر لآخر مرة، رحت في اتجاه مكتبة اسكندرية، وفي اللحظة اللي خرجت فيها من مكتبة ديوان ورحت أرتاح شوية في سيلانترو، ولقيت لحسن حظي طرابيزة شيك على التراس في مواجهة البحر، وطلبت قهوتي، وصوّرت الغروب، قلت "كفاية. افصلي، حطّي الموبايل جنبك، وبصّي مرة واحدة على الغروب لنفسك من غير ما تبقي ملهوفة إن حد يشاركك فيه." استرخيت، وسندت رجلي اللي كلّت من اللفّ على السور الحديد، وبصّيت للشمس وهي بتاخد الغُطس الأخير، ورجعت لورا بظهري للكرسي وأنا باطلّع نَفَس عميق متأني كان محبوس من زمان، وعبّيت من الهواء الرطب، وتأمّلت في خيالات المحبين السوداء قصاد بواقي النور، و"احتسيت" القهوة. لحظتها - واللحظة دي استمرت ساعات ليلتها - لحظتها حسيت بدفق جارف من السلام والطمأنينة والانبساط والبهجة. كانت لحظة الفهم والتسليم. كانت كل حاجة مكتملة في اللحظة الطويلة دي، حتى مقدار التعب كان لذيذ؛ لا هو مرهق ولا هو راحة سخيفة تخلي الواحد يتقلقل مكانه. تعب وخدر يجبر العقل إنه يستكين. اللحظة دي كانت ملكي لوحدي، أنا اللي هيأت ظروفها، ومحدش كان معايا فيها، لا جنبي ولا في أفكاري. كانت لحظة منعشة. البني آدمين لازم يعيشوا اللحظات اللي زيّ دي كتير.

عمر الإحساس ده ما جاني في القاهرة. القاهرة مدينة مُدَّعِية، كل اللي يعيش فيها لازم يتطلع، ويتظاهر، ويمثل، ويجري، وعنقه يشرئب للملذات المادية والمظاهر الاجتماعية. طبقات مش حابة بعض لكن مالهاش غنى عن بعض. طبقات كلها ردود فعل لبعض، لكن بتتعامل مع بعض، وبتحاول تنصهر في بعض، ثم تتباعد، ثم تنصهر، ثم تتباعد .. موجات انصهار وتباعد مستمرة مش بتقف. ماحسيتش إن اسكندرية كده. يمكن ناسها بتتخنق في الصيف من الزحمة وهجرة المصايف، لكن اللي شفته على طول الكورنيش انصهار من نوع تاني؛ ناس بسيطة بتاكل عالبحر، وناس شكلها من الطبقة المتوسطة قاعدين على كراسي وشمسية أو بيتمشوا وهما بيصوروا بعض، وشباب شيك نازلين من عربياتهم الفخمة علشان يصوروا مراكب قديمة، ويصوروا بعض ووراهم الناس اللي قاعدين بياكلوا أو بيتسامروا، وبعد ما يخلصوا تصوير المراكب هايطلعوا عالنادي اليوناني يتغدوا هناك، وواحدة زيي، غريبة عن البلد، بتشوف كل ده في لوحة مرسومة، مركبة وبسيطة، متلونة وقديمة، متهالكة وجميلة. 


لحظة الغروب المكتملة اللي عشتها خلتني حابة آخد اسكندرية في حضني، زي ما الأوتيل اللي اخترته - بناء على نصيحة غير مباشرة من صديقي وزميلي العزيز محمد صيام - واقف في ميدان سعد زغلول، في نص الدايرة السحرية لكورنيش وسط البلد، وواخد اسكندرية في حضنه. وكإن سعد زغلول لسان حاله وهو مواجه البحر في النقطة دي بيقول: "مفيش فايدة، لازم أحبك يا اسكندرية."

وعمار يا اسكندرية .. يا جميلة يا ماريا .. 
وعد ومكتوب عليا .. ومسطر ع الجبين ..
لاشرب م الحب حبه .. وانزل بحر المحبة ..
واسكن حضن الاحبه .. و الناس الطيبين ..



Template by:
Free Blog Templates