Tuesday, February 19, 2013

معضلة الانتماء

"ولكنّك سرعان ما تفيقين
على صوت المعلّمة يذكّرك منذ أول الصباح
بأن ترسمي خريطة للوطن و تلوّنيها
وأن تحفظي ثرواته و توزّعيها
ولكن ليس هذا وطنك لترسميه و تحفظيه
فوطنك المفترض في شهادة ميلادك
طلبت منك المعلّمة أن تسبّيه"

 
المقتطف السابق من نثرية كنت كتبتها في 2009، قبل سفري المرتقب إلى كندا، أصف فيها أوائل وعيي بمراهقتي، وبعض مشاهد من أيامي بالمدرسة الإعدادية في طرابلس - ليبيا. المشهد المقتبس هنا حدث في عام 1990، إبان غزو العراق للكويت. كنا في حصة الجغرافيا نحفظ عن ظهر غيب وبالرسم التفصيلي توزيع الثروات المعدنية والمائية والنفطية لليبيا وأفريقيا، وكانت كراسة الواجب المنزلي خاصتي تحفة فنية برسوماتها وألوانها. عندما حدث الغزو، أخذت ليبيا جانب العراق، وأخذت مصر جانب الكويت، بل وأرسلت قوات عسكرية لنصرتهم، ولذا أصبح لزاما علينا في حصة الوعي القومي أن نصدح بموقف مناصر لموقف ليبيا، وبالتبعية مناهض لموقف "الدول المعادية"، ومن ضمنها مصر. كان كل طالب وطالبة مطالبين في إطار "الدرس" أن يقفوا ويكيلوا سيلا من الشتائم والانتقادات لتلك الدول المعادية. وهكذا، لأثبت ولائي المطلق للدولة التي علمتني وأكرمتني، كان عليّ أن أقف وأشتُم مصر وأنتقد موقفها الخائن لقضية العروبة.. كان الهاجس الأكبر عندي أن أنفي عن نفسي تهمة الانتماء لهذا البلد الخائن وأثبت الولاء لموقف بلدي الأصل ليبيا. وكان هذا سهلا بشكل لا يصدق. كان الانتماء لمصر بالنسبة لي حتى ذلك الوقت إسميا؛ لم أعش في مصر، ولم "أشرب من نيلها" كما تغنت شيرين، ولم أتمرغ في طيب ثراها وأتشبع من وهج تاريخها العريق. كانت مصر لي أرضا موعودة؛ يوما ما سأعود إليها لأجد الجنة بانتظاري والراحة من كل عناء واضطهاد وفقر. وحتى عندما كانوا يقولون لي في المدرسة أنها بلد الراقصات، تخوفت أني سأعود إلى ماخور، لا جنتّي الموعودة، ولكن الفكرة كانت أفضل من البقاء على أطراف أصابعي أحارب كل يوم لأرسخ انتمائي لبلد لا يعتبرني مواطنة أصيلة. ومع ذلك، وقفت وشتمت مصر. لا زلت أتذكر الحماس المحموم الذي كان ينتابني وأنا أهتف ضدها في الفصل مع زملائي، وكيف أن هذا كله تمثّل لي وقتها هراءً أحمق بلا معنى، ولكنه كان مع ذلك أمرا ضروريا حتى لا يترصدني أحد بزجاجة عصير حمراء يلقيها على مريولي اليتيم، كما حدث ذات مرة من زميلة مشفوعا بالسُّبّة الخالدة "يامصرية يافوّالة". ولَكَم كرهت الفول وامتنعت عنه بكل جوارحي حتى أنفي عن نفسي هذه التهمة "الحقيرة"..
عندما عدت إلى مصر أخيرا، ظللت أسبوعا كاملا في مدرستي فاقدة للنطق، أنظر بذهول لما حولي ومن حولي. الإيقاع سريع ولا يُحتمل، والصراع على النجاح في المدرسة شرس ومقيت. كنت أنظر حولي فأرى المحجبات في كل مكان، وأرى زميلاتي ينظرن لي في استهجان واستنكار عندما أتحدث عن أبناء خالتي الذين ألعب معهم. أسأل نفسي "أين الراقصات؟" ولا أجد إجابة. أرى عالما مزدحما خانقا مليئا بالضوضاء وقصور الثقافة التي لا بد لها من اشتراك والدروس التي لا ترحم أحدا. أرى هذا كله وأسأل نفسي: أين جنّتي؟ أين الفصل الهادئ الذي يحصل كل طالب فيه على الاهتمام والتقدير؟ أين كتبي التي تركتها ورائي في بيتي القديم؟ وعندما حصلت على أول زجر من مدرسة التاريخ عندما لم أستطع تذكر تسلسل الأسرات الفرعونية المرعب في طوله وتفاصيله كرهت التاريخ الفرعوني والمصري برمّته. أخذتني الدوامة وانخرطت في السباق المحموم، وإن ظللت أحتفظ باستقلالي عن التيه في دوامة الدروس الخصوصية. صرت أتفاخر بأني لم أعش في مصر ولذا لا أنتمي إليها: "أنا بلا انتماء أيها السادة! ما أروع هذا!" ثم أسأل نفسي: ما معنى الانتماء حقا؟ "يعني إيه انتماء؟"
ظل هذا السؤال يحيرني بين الحين والآخر، ولكني كنت مستمتعة بأن لا إجابة له وأنني أكون مميزة طالما بقيت هكذا "أنا بلا انتماء! الانتماء قيد وضعف! أنا إن وجب أن أنتمي فسأنتمي لله ثم للعمل!" وقد كان الطرح الأخير أحد الاتجاهات الحديثة في إيجاد صيغة عامة للانتماء تعلو فوق الانتماء للوطن الضيق وتخرج لرحابة الانتماء للدين والخالق، ثم لمبادئ العمل والاجتهاد، وربما الأصدقاء، ولكن أبدا ليس للأرض والوطن. ومرت الأيام وبدأت أفيق تدريجيا من صدمة التعليم الثانوي، حتى تخرجت من الجامعة وتم تعييني بالكلية التي درست بها. كان حماسي للعمل لا يحده شيء، وكنت أعمل وأعمل وأعمل متأملة أنني أقدم فائدة ولو بسيطة للطلاب وللكيان الذي أعمل به. ورغم أننا درسنا في كيان افتراضي ليس له مبنى على الأرض، إلا أن اعتزازنا بهذا الكيان كان يرقى للاعتزاز القومي. وحتى عندما مررنا بفترة صعبة من الإدارة التي لم تكن ترقى لطموحنا الذي كنا نحلم به للمكان، ظللنا نحلم بأن نعود له يوما ما وبيدنا القرار والصلاحيات لكي نصلح ما فسد فيه ونعلي من اسمه ومكانته بين الكيانات الجامعية الأخرى. وقتها فقط أدركت أحد معاني الانتماء؛ أن تشعر بأن المكان لك، ولك فيه حق لا يسقط بالتقادم أو الابتعاد. ولكن الأهم أن لك في المكان حلم، حلم تعتنقه كدين وتؤمن به بكل جوارحك وتؤمن بأنك قادر على تحقيقه مهما طال الزمن وبعدت الفرصة. أعدتُ النظر مِن حولي، وتأملت في حال بلادي. هل تستحق مني فرصة ثانية أعيد فيها أواصر الانتماء لِجَنَّة موعودة أخلقها أنا؟ كانت الصلة واهنة، ولم أكن أهتز لها طربا، ولكني أقنعت نفسي أنه من الضروري أن يكون لكل إنسان انتماء وطني إلى أرض ما، يراها مهد أحلامه ويصبو لأن يشيخ فيها بعد أن يعمرها بما استطاع من جهد وعمل. وقتها بدأت أقرأ نجيب محفوظ والحكيم وحسين هيكل، الذين كانت رواياتهم صميمة في مصريتها، فأردت أن أتعلم منها مفردات هذا البلد الذي أنتمي إليه بالمولد والعائلة ولا أشعر نحوه بالعاطفة والحب. أوغلتُ في القراءة عن حقب التاريخ المصري عَلَّني أشعر بذلك الوهج يضيء بداخلي. قرأت متفرقات عن المماليك دون أن أدرك بشكل كامل البعد التاريخي والسياسي لدولتهم؛ فقط بهرتني الأسماء والأحداث التي سبقت وعاصرت مذبحة القلعة. أحببت الآثار الإسلامية ورأيت فيها تجسيدا حسيا لأحداث التاريخ المصري، وانبهرت بالقاهرة الخديوية وقرأت سيرة الأسرة العلوية. قرأت قليلا في التاريخ القبطي، واطلعت في استحياء على بعض من التاريخ الفرعوني. كل هذا ولا شيء يتحرك فيّ ويهفو لهذا البلد. ارتبطت بأماكن في القاهرة وطنطا والمحلة كانت تعبق بروائح ذكريات أحبها، ولكن مجموعها لم يساو الكل الوطني. سمعتُ بوجوب الانتماء للدين أولا قبل الوطن وسخافة الترسيمات الحدودية بين أقطار الأمة العربية، وأعجبتني الفكرة، ولكني لسبب ما رأيت أنها ناقصة. نعم الانتماء للدين فقط وإعلاؤه على كل ما هو سواه فكرة ناقصة، لأنها تعني أن تنتمي لمليار ونيف نسمة على وجه البسيطة لا يربطك بهم إلا العقيدة؛ لا أرضَ تجمعهم ولا بعدَ مكانيّ يَحُدُّهم، ولوجب أن يكون من السهل عليّ في ليبيا أن أنتمي دونما خوف من اضطهاد جذوري المصرية. وما معنى أن أنتمي لديني بالأساس؟ أهو أن أعيش فيه أم أن أعتنقه أم أن أنصره على ما سواه؟ الدين ليس مكانا؛ الدين فكرة يعتنقها العقل عن اقتناع، ولنصرة الدين لا بد أن يكون في خطر، وأن يكون له أعداء، وأنا لم أر أعداء لديني أشد من معتنقيه، الذين لا يتحركون إلا بالصياح إذا ما سمعوا بما يمس "الدين" الذي هو لهم أصل الانتماء. ثم أنا لا أرى أنهم يعتزون مثلا بإسلام الأفارقة، ودوما ما كنتُ أُصدم بالنظرة العنصرية لهم، ما يهدم الفكرة من أساسها. ثم سمعتُ بوجوب الانتماء للعروبة والقومية العربية، والانتماء للعروبة أمر جميل وله امتداد جغرافي ملموس على الأرض يعد بالقوة والنماء إذا ما كان استثمار الانتماء العروبي صادقا، ولكن لا أحد يسعى حقا للتوحد خلف لواء العروبة؛ المصريون يحبون أنهم فراعنة، واللبنانيون يحبون أنهم فينيقيون، والمغاربة يحبون أنهم برابرة وأمازيغ، واليمانيون يحبون أنهم حِمْيَرِيُّون، وهكذا دواليك. سمعت بعدئذ بالانتماء الوطني، الذي يلتزم بالحدود التاريخية للقطر، وكان السياق منطقيا لمصر، التي لم تتغير حدودها ذات البعد التاريخي كثيرا. أعلم أن الكثيرين يتباكون على أن عبد الناصر تسلم مصر من الملكية ومن ضمنها السودان وسيناء، ليفقد الاثنين، ولكن أيها القوم لقد كان اسمها "مصر والسودان"! هناك مصر، وهناك سودان! وحدتهما ربما كانت سياسية واقتصادية، ولكنها بالتأكيد ليست قائمة على شراكة لا تفصلها الحدود والتقاليد والتاريخ. حتى سيناء وغرب مصر، يغلب عليها الطابع القبلي الذي ليس أصيلا في السمات المصرية - وأنا هنا لا أمس فكرة وقيمة وحق المواطنة لكل مصري داخل حدود القطر. تبدت لي بعد هذا كله الفكرة التي خلاصتها أن انتماء مصر قد عبر عنه هيرودوت عندما قال أن مصر "هبة النيل". مصر هي حقا هبة النيل؛ يدين له ساكنوها بالحياة، ويمدون منه شرايين وبحيرات فرعية ليتمددوا ولو هونا خارج شريطه الطيني الثري بالخيرات، ويمتزج ذلك الطين بالأقدام والأيدي وأطراف الملابس في عناق محموم لا يفهمه - بل ويزدريه - "ولاد الناس النظيفة". خارج النطاق المكاني للنيل تجد القفر والحياة المجترحة من الرمل والصناعات الحديثة؛ حياة جافة كالرمل بها القليل من الروح التي تصارع لتحافظ على مصريتها. ولكن الروح المصرية الأصيلة عالقة بذلك الشريط الضيق حوله. الطين عالق بالجسد المصري لا يمحوه حتى الوضوء، بينما الرمل كينونة خفيفة لطيفة لا تعلق بشيء من الإنسان ولا يعلق بها الإنسان. الطين ناعم وحنون وطيب، والرمل خشن وقاس وجارح. لقد عشت في الرمل أول عمري، وها أنا اعيش في الطين الآن، ولذا أعرف الفرق جيدا. كنت أقرف من منظر الطين على أطراف الفلاحين ومن اتساخ ملابسي به، والآن لا أدري، ولكني لا أهرع لمحو لآثاره عني كما كنت من قبل. حتى عندما شردت بعيدا بأفكاري عن النيل وتأملت في سكان المحافظات الساحلية الشرقية، وجدت لهم نكهة مميزة ومختلفة، مصرية لكن ليست بالضرورة نيلية خالصة؛ هم أيضا مرتبطون بشريان مائي هو القناة، التي يجري فيها ماء البحر مختلطا بعرق ودماء المصريين "الفلاحين" الذين حفروها. الجينات المصرية هناك، والطين "المؤسس" هناك في قاع القناة، ولكن الجينات لم تعد تماثل نكهة النيل؛ هي بنكهة الدم والعرق والبذل والكفاح. يتمتع سكان القناة بجينات المصرية الناطقة بالمرح والموسيقى والسمر والعمل الحر، ولكن الطين لا يعلق بأطرافها. الجينات على ضفتي النيل تمتد ضاربة عميقة في جلدة الأجداد، ولا تطفر على السطح إلا قليلا في الأبناء الساكنين على ضفة القناة.
لقد حاولت بعد هذا كله أن أندمج في السياق التاريخي المصري وأقنع نفسي أنه امتدادي الأزلي، ولكني أراني أنبهر كالمستشرق، دون أن يرسخ الطين والتاريخ عميقا في قدمي ويلصقني للأرض. حتى عندما سافرت إلى كندا وعرفت بالتجربة الفارق بين بلد عشوائي على أطراف المدنية الحقة وبلد كل شيء فيه بنظام، لم أتمكن من أن أنتصر لانتماء إلى النظام والعمل الجاد والنظافة واحترام المواطن، وفضلت أن أجرب حظي مع الطين مجددا علّها تفلح هذه المرة. عدت وأنا أسأل نفسي بعد هذا كله، غير قادرة على الإجابة عن السؤال، تماما كما لم يستطع أسامة أنور عكاشة في مسلسله الباحث عن الهوية المصرية "أرابيسك" التي عرف فقط أنها ليست سلطة من كل حقب التاريخ. أسأل نفسي ولا أجد قلبي يخبرني بإجابة شافية: هل أنا عربية؟ مصرية؟ نيلية؟ ليبية؟ إسلامية؟ حاسوباتية أنتسب لِكُلِّيَّتي؟ أبوخيرية لعائلة أبي؟ صقراوية لعائلة أمي؟ هل أنا ذلك كله والانتماء في حقيقته طبقات بعضها فوق بعض ولا يغني بعضها عن بعض؟ هل انتمائي المصري الذي أحاول جاهدة أن أرسخه في لا وعيي يحمل أي معنى ذا قيمة لمستقبلي؟ هل يعاني من تغربوا في بلدان النفط مثل ما أعاني من الهواجس الانتمائية السوفسطائية؟ هل معرفة الأصل مهمة لهذه الدرجة؟ هل أكون أفضل حالا إن عرفت أنني في الأصل من الأشراف أو من الأقباط مثلا؟ ولم ذلك؟ ولم يجب عليّ أن أكون سعيدة إن عرفت ذلك؟ هل مصر بوتقة تصهر كل من فيها بطابع مميز ليس خليطا من كل طبقات التاريخ، وإنما هو مزيج فريد "مصري"؟ ولم ليس الحال كذلك في السعودية مثلا وهي التي استوعبت أمواج الحجيج الذي استوطنها منذ قديم الزمان، فنجد السعودي القبلي والحضري والبخاري والألباني و.. و..؟ ولكن قد يكون لهذا السؤال الأخير تتمة في حديث قادم إن شاء الله. حتى ذلك الوقت، لا زلت لا أحب الفول، ولا آكله إلا مضطرة.

أختم حديثي بحديثين عن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم:

لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ ، قَالَ : "أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ."

"إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن."
  
وآخر عن بلال ابن رباح - أول من قرأت سيرته من الصحابة الأكرمين:

ذهب بلال -رضي الله عنه- يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما "أنا بلال وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تزوجونا فالحمد لله، وان تمنعونا فالله أكبر."

 ثم أختم بالخطبة العصماء التي ختم بها أرابيسك:


المهم نعرف احنا مين و أصلنا ايه
ساعة ما نعرف احنا مين ؟
هنعرف احنا عايزين ايه
و نبدأ .. ونتكل على الله

Template by:
Free Blog Templates