Thursday, November 21, 2013

عن صندوقيّ كتبي، وعلبي

في لحظة رواق، فاجأتني الذاكرة بأن عادت بي لأيام بعيدة، سحيقة في البعد.
أتذكر أول أيام وعيي بالعالم في ليبيا، حيث عشنا عيشة التقشف التي ليس بها حتى الحد الأدنى من اللهو البريء. أتذكر صندوقاً كان تحت سرير أبي. كان الصندوق يحوي كتباً كان يُدَرِسُ منها للمرحلة الثانوية: المنطق، علم الكلام، علم النفس في حياتنا اليومية، التاريخ الإسلامي، الفلسفة، علم الاجتماع. كان أبي مدرس علم نفس واجتماع (وفلسفة ومنطق ولغة إنجليزية لحد مايجيبوا مدرسين فلسفة ومنطق ولغة إنجليزية). وكان الصندوق يحوي إضافة لهذه الكتب كتباً أخرى يجمعها أبي في نهاية كل عام دراسي من أروقة المدرسة بعد أن يلقي بها الطلاب سعداء: النصوص والشعر للثانوية العامة، القراءة الحديثة للثانوية العامة، تراجم شكسبير، الوعد الحق، قصص الأنبياء. كما احتوت المجموعة على مجلدات بهجة المعرفة للصادق النيهوم (التي ضمها أبي للصندوق في أواخر أيامنا بليبيا، وحوت قصة الحضارة والعلم والكون والإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى العصر الحديث). كنت في بدء وعيي غير مدركة لما يحويه هذا الصندوق من كنوز، فكنت أخرجه خلسة وأبحث عن الكتب التي تحتوي الرسومات، وأدى هذا لأن أختار في أول تعارفي بالصندوق كتاب الوعد الحق، وأقرأ بعضاً منه بما تيسر لي مما تعلمته قبل دخولي المدرسة، ثم ألون الرسومات بأي أقلام تلوين أجدها في البيت.
عندما انتظمت في المرحلة الابتدائية، لم يكن لدي ما أفعله في الصيف؛ لم يكن لدينا أنشطة صيفية، ولا "فسح"، ولا برامج ترفيه تليفزيونية (كانت الحرب اللبنانية على أشدها وكان التلفزيون الليبي يمسينا ويصبحنا بمشاهد القتلى وبساعة يتيمة من كارتون الأطفال). وكان أن بدأت عادة صيفية مقدسة استمرت معي إلى أن عدنا إلى مصر: كنت في أول يوم للعطلة الصيفية أخرج صندوق الكتب من تحت سرير أبي وأنا أرتجف جذلة من الإثارة كما لو كان صندوق لعب جديدة، ثم أقرأ كل ما به من كتب طوال شهور الصيف. كان أول ما قرأت بعد "الوعد الحق" كتاب "علم النفس في حياتنا اليومية"، وتعلمت منه ما معنى الارتباط الشرطي، وما هي تجربة بافلوف، وما هي أنواع الفوبيا (الخوف المرضي) المختلفة، وكيف تتم جلسات العلاج النفسي، وماهية الدفاعات النفسية التي يفعلها البشر في مواجهة الضغوط النفسية، وما معنى القلق المرضي، والمعنى العلمي للهستيريا، ومرضاً عجيباً اسمه النوراستينيا (Neurasthenia) والذي يتضمن الشعور بأعراض جسدية كالوهن والأوجاع ليس لها تفسير فيسيولوجي محدد. وكان من أهم ما تعلمته من هذا الكتاب هو "كيف تقرأ بسرعة"، وملخص هذا أن العقل البشري يمكنه إدراك سطر كامل من الكلام رؤية وفهماً إذا ما ركز على ثلاث نقاط في كل سطر: البداية والمنتصف والنهاية. وغَنِّي عن المقال أنني أكملت قراءة الكتاب باستخدام هذه الطريقة، ومنذ ذلك الحين وأنا أقرأ الكتب والمقالات هكذا؛ مبتدأ، منتصف، وآخر.
تلا هذا الكتاب كتاب علم الكلام، وهذا الكتاب بالذات كان محيراً بالنسبة لي وقتها، فقد تخيلت أنه كتاب عن تعلّم كيفية "الكلام"، وأذكر أنني قلت في نفسي: "ياي! سأتعلم أخيرا كيف أتحدث بشكل جيد!"، لأفاجأ بأن علم الكلام هو العلم الذي تَعرَّض للجدليات التي صاحبت بعض المسائل الشائكة في عقائد الإسلام، كالقول بقدم القرآن أو حدوثه، وفرضية القدرية والاختيار، وصفات الله، بهدف إثبات تلك المسائل بالدليل العقلي والحجج المنطقية. لك أن تتخيل أيها القاريء الكريم أن تقرأ البنت ذات الست سنوات قصص الوعد الحق وعلم الكلام وتتعرف على صراعات الصحابة وجدليات الدين قبل أن تدرك ماهية الدين نفسه. أجزم بأن هذين الكتابين تحديداً هما ما جنبني أن "أشتري" موجة تدين التسعينات الشكلية التي جرفت مصر في طريقها، وعلّماني أن أفكر في كل ما يعرض لي في أمر ديني بالمنطق والتفسير المتسق مع العقل. أذكر أنني وقتها كتبت خطاباً أتحدث فيه مع نفسي مثبتة وجود الله بالدليل المنطقي بما تأتى لفتاة لم تتعد العشر سنوات، ولكني أضعت ذلك الخطاب للأسف مع ما أضعت من أشياء كثيرة.
ثم كان أن قرأت كتب المنطق والفلسفة وبعض تراجم لشكسبير وعلى هامش السيرة لطه حسين. لم أستمتع كثيرا بالفلسفة، ولكن المنطق كان أكثر من رائع، وقد كان من الممتع أن أدرس فيما بعد في الجامعة التصميم المنطقي والذكاء الاصطناعي، لأجد كتاب المنطق ذاك يسعفني في دراستي واستيعابي لهاتين المادتين. ولكن أهم ما استفدته من كتاب المنطق كان كيفية سوق الحجة المنطقية لدحض (أو توكيد) نظرية ما. وكلما جرفتني العاطفة في جدال ما، تذكرت بعضاً مما كنت قرأته في ذلك الكتاب لأستعيد الهدوء وأُرسي هذا المبدأ في حياتي: "إن لم تكن تعلم، لا تتكلم". أما تراجم شكسبير "تاجر البندقية" و "الملك لير" فكانت قراءتها متعة فائقة لم تكن تَعلوها متعة في كل المجموعة، وقدمتا لي أفكاراً كالعقاب والحيلة والصدق وزيف المظاهر وأهمية البحث عن جوهر الأشياء، فتعودت منذ ذلك الحين أنني، وإن كنت أحب المظاهر، لا يجب أن أنخدع بها عن إدراك الصدق وتحريه في تعاملي مع المواقف والناس والأشياء. أما على هامش السيرة فقد قرأت الجزأين الأول والثالث، وكان الجزء الأول قراءة سحرية في العالم قبل النبوة، تقرب من الميتافيزيقا، أما الكتيب الثالت فكان رصدا لتحولات المجتمع الإسلامي بعد النبوة، وكيف أضحت المصالح والصراعات سيدة الموقف، في ثيمة تقرب كثيرا من "الوعد الحق". لقد أحببت الوعد الحق كثيرا، لأنه كان يرصد جانبين من الدعوة يغفل عنهما الكثير: الفقراء وسيرتهم، ودورهم في تشكيل الصراع الذي كان طبقياً بقدر ما كان سلطوياً. انتصر طه حسين في الوعد الحق للفقراء، وتكاد هذه أن تكون المرة الوحيدة التي ينتصر فيها للفقراء في كتاباته، ربما لأن الفقراء هنا كانوا إيجابيين في صياغة حياتهم ومواقفهم ولم يكونوا مطية للمجتمع من حولهم يشفق عليهم وقتما يشاء ويستغلهم كيفما يشاء.
أجمل ما كان يحدث لي عند نهاية كل صيف بعد أن أكون قد أتممت قراءة كل تلك الكتب هو أنني كنت أكتشف أنني فهمت أشياء جديدة لم أكن أفهمها العام السابق، وجعلني هذا أدرك كيف أن فكري كان ينمو مع كل عام بما كنت أتعلمه في المدرسة. وقد كانت بيئتي التعليمية ممتازة بحق: كان معظم الطاقم التدريسي أستاذات فضليات، وكن يجمعن بين التحرر الفكري والاستقلالية بشكل لم أدرك مدى روعته إلا عندما رأيت المدرسات المصريات في المرحلة الثانوية .. كانت لديّ مدرسة لغة عربية لا تتحدث منذ بدأ الحصة إلا باللغة العربية الفصحى، وهكذا أحببنا النحو والإعراب، وكانت لدي مدرسة تربية دينية "غير محجبة" هي من علمني أن أتوقف عند مفهوم ودلالة كل كلمة أقرؤها - في درس "العفو عند المقدرة"، ما معنى كلمة عفو؟ وما معنى كلمة مقدرة؟ وما هو التناسب الأمثل بينهما الذي يخلق الموقف الذي يكون عنده العفو عند المقدرة شيئا محموداً؟ وكانت لديّ مدرسات رياضيات ساعدنني في ترسيخ التفكير المنطقي الذي زرع نواته كتاب المنطق، وكانت لديّ مدرستان للعلوم هما من علمتاني أن لا أتصدى لمهمة إلا إن كنت أعرف أنني سأستطيع إتمامها. كنا نقف في طابور الصباح بكل احترام ونمارس الرياضة (الحقيقية) نصف ساعة قبل بدأ الحصص، وكنا نقوم بالتجارب العملية في معامل العلوم، وكنا نمارس العديد من الأنشطة الفنية والأدبية؛ التمثيل والموسيقى والرسم والخط ومجلات الحائط والإذاعة المدرسية - التي كان يجب علينا أن نعدد موادها بأنفسنا من قراءاتنا في الكتب والمجلات الثقافية ك "العربي الصغير" و "المختار" و "ماجد". لم أترك مجالاً خارج حيز الدراسة إلا واشتركت فيه، وساهم هذا في أن أوسع من مداركي أكثر فأكثر، لأعود إلى صندوق كتبي كل صيف وأنا أكثر لهفة لاستيعاب "الجديد" فيه. كان الصندوق هو هو لا يتغير، وكانت الكتب هي هي لا تتغير، ولكنها كانت في ذات الوقت تكبر معي، وكأنها "تطير" معي محلقة أعلى وأعلى في كل عام إلى عوالم لا يراها غيري. كانت تجربة فريدة، وكنت محظوظة بحق.
مع تقدم الأعوام، كبر إخوتي قليلاً وأمكنني أن أشاركهم في اللعب، ولكن لأن اللُعب كانت رفاهية لا نملك منها إلا أقل القليل، تفتق ذهننا عن أن نصنع ألعابنا بأنفسنا: كنا نجمع العلب، أي علب؛ علب سجائر، أدوية، عطور مهداة إلى والدتي من تلامذتها، أي علب، ونبني منها بيوتاً مؤثثة: أَسِرَّة وصالونات ومكتبات ومطابخ وقطع ديكور. كنا نأخذ كِسر المرايا القديمة من الشارع ونؤطرها ببقايا أقمشة مزركشة ونضعها في "البيوت"، ثم نرسم على الورق شخصيات لساكني تلك البيوت، ونصمم لهم ملابس للبيت والسهرة. تطورت لعبتنا تلك إلى كتابة سيناريوهات لما يحدث في تلك البيوت، وللتفاعل بين كل بيت مع الآخرين: قصص حب، وصراعات، وعائلات تتكون. مع تقدم السنين صار الأمر تنافسياً بيننا؛ من يجمع أفضل العلب ويصمم أجمل البيوت، وتحول الأمر إلى أعلى مراتب ال "scavenger hunt". كان كل منا يضع قطعه "الثمينة" في صندوق خاص به، وكنا نتهافت على أبي انتظاراً لكل علبة سجائر ودواء ينتهي منها، ولربما سرقنا من بعضنا في الليل أفضل القطع، ولكننا لم نفعل هذا كثيراً لأن السرقة كانت تنفضح سريعا عندما يحين وقت اللعب المشترك. وكان أن أصبح صيفي منقسما بين هذين الطقسين المقدسين: نصحو في الصباح لنشرب الشاي ونأكل الخبز المقرمش والجبن الأبيض، ثم أخرج صندق العلب لألعب وإخوتي قليلاً، ثم نصمم ملابس جديدة، ثم أقضي العصر والمساء أقرأ كتاباً من صندوق الكتب، تتخللها ساعة الكارتون مع "سبانك" أو "الحوت الأبيض" أو ساسوكي" أو "الغواصة الزرقاء" أو غيرها.
عندما أخذ والداي قرار العودة النهائي لمصر، كان أول ما فكرت فيه هو: كيف أقنعهم بأنني يجب أن آخذ صندوقيّ معي؟ لم أكن أتخيل أن أنفصل عنهما وعن طقسي الصيفي المقدس، ولكن كان لأبي الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع، لأنه من يحزم الحقائب، وقد كان هناك أشياء أهم بكثير من حفنة من الكتب والعلب. وكان أن أقنعت نفسي أنني يمكنني في مصر أن أجمع علباً جديدا في صندوق جديد، ولكن ماذا عن الكتب؟ أعتقد أن ما حدث هو أنني في آخر ليلة حزمت في الحقيبة التي كان يجب أن أحملها على ظهري بعض الكتب، لأنني لم أكن أملك ملابس إلا الفستان الذي سافرت به، ولكن حقيبتي للأسف لم تتسع لكل الكتب. كان الاختيار مؤلماً، واستقر بي الأمر أن أخذت كتب القراءة الحديثة والنصوص ومجلداً واحداً من "بهجة المعرفة" لأنها كانت أخف الأحمال. كانت كتب النصوص تلك هي من عرفني بالشعر الجاهلي والخطابة في الجاهلية ثم في أول وصدر الإسلام، وكان المحتوى لا يخجل من رصد الصراع الكلامي (شعراً وخطابة) بين طرفي الصراع العتيد على السلطة في عهد علي كرم الله وجهه، بالضبط كما رصد الصراع الجاهلي في تلك الحروب الطويلة التافهة. وكانت كتب القراءة الحديثة تلك حافلة بالقصص القصيرة مما كتب المنفلوطي وأحمد أمين وغيرهما من أدباء العصر الحديث، كما احتوت مقالات كثيرة ترصد بعض الظواهر المجتمعية كالذكاء الاجتماعي ومكانة المرأة.
هكذا كان الفراق بيني وبين صندوقيّ كتبي وعلبي، رفقاء طفولتي وبدايات مراهقتي، ومؤنسيّ وحدتي في غربة كان فيها الكثير من الأوقات الحلوة، والكثير من الأوقات المرة، والأكثر من الوحدة. لم يتسنّ لي في مصر أبداً أن أعيد بناء صندوق العلب، وكأنما كان السحر كله في ذلك الصندوق القديم، أو كأن التقدم في العمر ومحاولة التأقلم مع الصدمة الحضارية التي شكلها لي الانتقال من ليبيا إلى مصر أجبرني على أن أخرج من "فقاعة" العالم المثالي الذي كنت بنيته لنفسي لأواجه عالماً حقيقياً شرساً غير متسامح ولا راقٍ. كانت الإضافة المصرية الوحيدة التي أضفتها للمجموعة التي استنقذتها من ليبيا هي كتابات رؤوف وصفي في الخيال العلمي، والتي تميزت عن باقي سلسلة الجيب التي كانت تغرق المكتبات في مصر بكونها تعرضت بشيء من العمق للتأثير الاجتماعي والنفسي للتقدم العلمي على البشر. ولكن أبدا لم يكن لها نفس سحر كتبي الأصلية، التي شكّلتني، ولم تتركني أبدا، ولازلت أتذكر صفحات بكاملها عن ظهر قلب، واستطعت في النهاية بفضل الإنترنت أن أتحصل على بعضها مرة أخرى، وجمعت الكثير الكثير غيرها، وعدت ثانية إلى القراءة المنتظمة. لكن الصيف فقد بهجته منذ آخر مرة أخرجت فيها ذلك الصندوق الأبيض القديم الذي حوى كتبي الأولى وأنا أتقافز من السعادة متلهفة على قراءتها.
كم تبدو تلك الأيام قريبة جداً الآن، رغم بعدها السحيق.
وداعاً يا كتبي الحبيبة، لقد كنتِ لي خير رفيق، ولن أنساكِ أبداً.

Tuesday, June 11, 2013

أزمة وجودية

عندما عدت إلى مصر في أوائل التسعينيات، كان معي مجلد صغير من الخطابات العائلية المؤرشفة حسب المرسل. في إحدى هذه الخطابات، والذي أُرسل إلى أمي من خالي الأصغر، وجدت هذه الفقرة:

كان هذا الخطاب مؤرخاً بتاريخ 3/11/1989. كنت وقتها في الصف السادس الإبتدائي. بعد هذا التاريخ بثلاثة وعشرين عاماً وخمسة أيام بالتمام والكمال، وبالتحديد في يوم 8/11/2012، حصلت على درجة الدكتوراه في نظم المعلومات، أحد التخصصات الواعدة في مجال الكمبيوتر. بدا الأمر وكأنني أحقق نبوءة ما وأن مصيري إلى تحقيق أشياء عظيمة، كما يحدث بكل سذاجة في الأفلام.
الحقيقة المجردة هي أنني حتى يومي هذا لازلت أتساءل عما إذا كنت أحب مجال عملي وأريد أن أستمر فيه ما تبقى لي من العمر. تمنيت لو أن هناك اختباراً محترماً يسألني عن الأشياء التي أحب حقاً أن أعملها وأجتهد فيها ثم يجيبني بمجال العمل المثالي لقدراتي، كما فعل أحد أبطال المسلسل الشهير "فريندز". يتساءل تشاندلر - المحاسب - عن جدوى عمله وعما إذا كان يجب عليه أن يغير مسار حياته العملية ويمتهن عملاً آخر، لأن عمله المحاسبي ممل ورتيب وغير جذاب. ولأنه لا يعرف ما هو المجال الذي يرغب في العمل به، يبحث عن استبيان قد تمنحه الإجابة عليه إشارة لموهبته الحقيقية أو "ندّاهته" (his true calling). بالطبيعة تكون نتيجة إجاباته عن الاستبيان أن أفضل عمل يمكنه القيام به هو "المحاسبة"، فيعود بذلك إلى نقطة الصفر. يمكن ترجمة هذا الموقف الذي من المفترض أن يكون كوميدياً لإحدى أمرين: الأول هو أنه حقا يحب المحاسبة ولكنه لا يعرف أو يمر بأزمة ملل أو ضغط نفسي، والثاني أنه لم يعط نفسه الفرصة في الأساس لاكتساب مهارات تخرج بإجاباته في الاستبيان عن إطار ما يعرفه وهو المحاسبة. يظل الاحتمال الثالث قائماً بالطبع وهو أن يكون الاستبيان في حد ذاته مجرد هراء.
علق هذا المشهد الكوميدي بذاكرتي منذ شاهدته في أواخر التسعينيات، وكان صدى للمعضلة التي ظلت - ولا تزال - تنغص تفكيري: ما هو العمل الذي أريد فعلاً أن أقوم به وسأكون به سعيدة رغم ضغوطه وأعبائه؟ بدأت هذه المعضلة منذ اليوم الذي نجحت فيه في الثانوية العامة وأزفت لحظة الحقيقة الأولى المتمثلة في الاختيار المقدس للكلية التي سأتابع فيها دراستي الجامعية، وهو الاختيار الذي سيقوم به الكثيرون غيري عندما تنتهي امتحانات الثانوية العامة في غضون شهرين. عندما وضعت قائمة الاختيارات أمامي، لم يخطر ببالي أن يشاركني أحد آخر اتخاذ القرار. لم يساهم والداي مساهمة إيجابية في تعليمي وتوجيهي دراسياً، إيماناً منهم ربما بأنه يجب على الطالب أن يدير شئونه بنفسه. ولكن أبي أراد أن تكون له كلمة في ذلك اليوم، وكانت رغبته في أن أسجل اختياري الأول إما لكلية العلوم أو الهندسة. أتذكر جيدا يومها أنني كنت أرغب بشدة في كلية الآداب أو الألسن، أو حتى الاقتصاد والعلوم السياسية، ولكن كان رأي أبي أنه من الهراء أن يضيع مجموع درجات الثانوية العامة الذي حققته في كليات "أدبية". وكان لا بد من الصدام والجدال، ثم العناد. إن لم تسمح لي بأن أسجل رغبتي في الكليات التي أريد، فلن تنال رغبتك في أن أسجل في الكليات التي تريد. هكذا وفي لحظة العناد تلك سجلت رغبتي الأولى بالالتحاق بكلية الحاسبات والمعلومات، وكان أن التحقت بها بالفعل.
يمكن أن أقول بصدق أنني لم أسع خلال سنوات دراستي الجامعية لرسم صورة ذهنية واضحة لما سيكون عليه حالي حال تخرجي في إطار ما تعلمته في الكلية. كنت أتخيل نفسي سيدة أعمال حرة في مجال الكمبيوتر أنشيء مركزا إقليميا متميزا في خدماته، ولكن لم تكن هناك خطة في ذهني عن الكيفية التي سأفعل بها ذلك. عاصرت في ذلك الوقت زملاء وزميلات أعزاء كان لديهم تصور واضح لما يريدونه وخطة سعي لتنفيذ ذلك التصور، ولَكَم غبطتهم على هذا اليقين الذي يغذي طموحاتهم وجهودهم. أما أنا فبقيت أسبح في أحلام اليقظة السخيفة، حتى حانت لحظة الحقيقة الثانية، عندما تخرجت من الجامعة. قلت لأبي: "لقد نجحت وترتيبي هو الأول بين زملائي في الكلية!". سكت هنيهة متأملاً ثم قال: "وما هي خطوتك القادمة؟ ماذا ستعملين؟". أُسقِط في يدي عندما واجهني أبي بهذا السؤال المصيري. نظرت إلى نفسي موجهة لها نفس السؤال، ولم تكن لديّ إجابة شافية. وما لبثت أن أنقذتني الحكومة من هذه المواجهة مع النفس عندما تم تكليفي بالعمل كمعيدة في الكلية بحكم كوني من الأوائل، وكان أن بدأت العمل في السلك الأكاديمي.
رغم الصعاب الكثيرة والمواقف المحرجة والشائكة التي واجهتني في عملي الجديد بحكم عدم خبرتي في المجال الأكاديمي والتدريسي وبحكم عدم إدراكي الكامل لواجبات وظيفتي وأولوياتها، إلا أنني وجدتني أستمتع بالجانب التدريسي فيه أيما استمتاع. رؤية مصباح الفهم يضيء فوق رأس طالب (هو في الحقيقة ليس مصباحاً، وإنما هو نور الفهم يضيء في وجهه) عندما تسهم في إيضاح مفهوم أو معضلة له هي متعة لا تعادلها أو تتفوق عليها إلا بضع متع نادرة أخرى في الحياة. انغمست في هذا الجانب من عملي بالإضافة لملحقاته الإدارية المتفرقة التي كنت أُكلَّف بها على حساب الجانب الآخر الأكثر أهمية والأشد إلحاحا: البحث العلمي. تكمن مشكلتي الأساسية مع البحث العلمي في كوني لم أتعلم مبادئه بشكل منهجي وسليم منذ البداية، واعتمد عملي فيه بشكل كبير على حدسي الداخلي، سواء في أسلوب الكتابة وما يجب أن يكون عليه أو في قراءة ونقد الأبحاث العلمية والتفكير في المشاكل البحثية واستكشاف حلول لها، ثم اختبار هذه الحلول بطرق علمية تقيس معايير تقييم أدائها. حتى اختياري لموضوع رسالة الماجستير كان عاطفيا بحتاً ونابعاً من أن عنوان الموضوع أعجبني وأثار اهتمامي بأكثر من كونه موضوعاً بحثياً فيه ما يستحق الاستكشاف والدراسة المتعمقة. كنت فاقدة لبوصلة توجيه خبيرة ترسم لي النصف الأول من طريق البحث العلمي (الماجستير) حتى يمكنني أن أرسم لنفسي بثبات ونجاح النصف الثاني منه (الدكتوراه). عندما تعلمت أكثر فيما بعد عن طرق البحث العلمي السليم، قيمت تجربتي في الماجستير، ووجدتني ويالدهشتي فعلت - دونما إدراك مني - كثيرا من الخطوات المنهجية المفترض اتباعها. ولكني أيضا وجدت الكثير من الأخطاء، ولكوني أكره الأخطاء ولا أستطيع التعامل معها بواقعية، ظل تركيزي في جزء كبير من مرحلة الدكتوراه متشبثاً بالتقييم السلبي الذي أعطيته لنفسي في المرحلة السابقة، وتنبهت متأخراً لكوني استغرقت في اللوم والتقريع والشكوى على حساب استغلال الوقت لتعلم ما فاتني أو ما أخطأت فيه.
عندما انتقلت إلى كندا لاستكمال الجزء الثاني من دراسة الدكتوراه، كنت أمر بظروف نفسية قاسية. وجدتني فجأة في بيئة تعمل كل عناصرها لخدمة البحث العلمي، ولا يحتل الجانب التدريسي فيها إلا دوراً هامشياً، حيث المبدأ الأساسي هو أن طالب الجامعة قادر على الفهم والاستذكار والتحليل بنفسه ولا يحتاج إلى الاعتماد الكلي على هيئة التدريس الأكاديمية. كان هذا أمرا مأساوياً بالنسبة لي، إذ أنني اكتشفت فجأة أن التدريس كان مظلة أمان احتميت بها مدة طويلة من مواجهة نفسي، وآن أوان أن أخرج للواقع. كان التدريس دوامة من النشاط المحموم الذي لا يترك لي فرصة للتفكير والتأمل والحوار الداخلي. أما هنا في كندا، حيث لا تدريس، وجدت الصمت المطبق؛ في منزلي الصغير صمت مطبق، وفي معمل الأبحاث الذي كنت فيه صمت مطبق (معظم الأحيان)، وفي مكتبة الجامعة صمت مطبق، وفي الشارع هدوء قاتل وصمت يكاد أن يكون مطبقاً. المدينة كلها صامتة، لأن المدينة كلها تدرس. وجدتني للمرة الأولى منذ سنوات عديدة في مواجهة لا مهرب منها مع الشخص الذي أكرهه كثيرا: نفسي. كدت أصاب بالجنون في أول عام لكثرة ما أقمت حوارات مع هذه النفس. لماذا لا أعمل بجد في نقطتي البحثية؟ لماذا لا أنسى أشياء سيئة كثيرة وأطوي صفحات سوداء كثيرة وأبدأ بداية منتعشة من هنا وأرسم لنفسي خط سير لباقي حياتي وأجتهد للعمل على تحقيقه؟ معظم الأصدقاء الأعزاء الذين قابلتهم في كندا كانوا كالزملاء الذين تعاملت معهم في كليتي بالمنصورة؛ يعرفون جيدا ما يريدونه ويؤمنون بقدرتهم على تحقيقه، ولقد رأيتهم يحققون أحلامهم وطموحاتهم بكثير أو قليل من التعب والجهد. لم تُجدِ الحوارات مع النفس، ولم يُجدِ التأمل في حال أصدقائي هنا أو هناك، وبقيت دوما أبحلق في الأوراق البحثية التي يجب أن أقرأها، وأسرح بخيالي في أماكن أخرى وحيوات بديلة. قناعتي بأن مكاني ليس "هنا" وإنما "هناك" في تلك الحيوات الأخرى التي أقوم فيها بكل الأشياء التي "أحبها" ساهمت بشكل كبير في إبطاء معدل أدائي المتواضع في نقطتي البحثية. ولم يكن من المهم كثيرا أن أحدد ماهية تلك الأشياء المحبوبة، فقد كنت أعتقدها خليطا من القراءة والموسيقى والتاريخ واللغة الإنجليزية ومشاهدة الأفلام - ما يمكن أن نسميه اصطلاحاً "هوايات". فقط لو أن القراءة كانت مهنة! ولكن البحث العلمي كله قراءة! وها أنتِ ذي مطالبة بأن تقرئي كثيرا في موضوع تجدينه شيقا، وعلوم الكمبيوتر متجددة وفيها كل يوم ما يستحق المتابعة والقراءة، فلماذا لا تقرئين؟! فقط لو أن الموسيقى تكون مهنتي! ولكنكِ تملكين مفاتيح معمل يحوي بيانو رائعاً يمكنك أن تعزفي وتتعلمي عليه قدر ما شئتِ من ساعات كل أسبوع! فلماذا لا تفعلين ذلك؟! فقط لو أنني كنت دخلت معهد التمثيل وصرت ممثلة! وفقط لو أن أبي تركني أدرس في كلية الآداب أو الألسن لأعمل في أي وظيفة تتعلق بالأدب الإنجليزي أو اللغة الإنجليزية! تعجبات كثيرة كانت تطن في رأسي كلما جلست في الصمت المطبق لأقرأ أبحاثاً في موضوع رسالتي أو أفكر في حل لمشكلتي البحثية. لو أن أحلام اليقظة كانت مهنة لكنت أجدر من يحظى بها!
أقنعت نفسي أن المشكلة كانت في ذلك السكون المطبق، الذي كنت أرى أنه يتسبب في تشتت الذهن وأحلام اليقظة، بدلاً من أن يكون عاملاً مساعداً على التركيز فيما بين يديّ! لقد ساعدني الصمت على أن أستمع لأول مرة إلى حواري الداخلي القلق، وأدرك أنه لا طريق مرسوماً لدي ولا أحلاماً حقيقية أمتلكها (وتمتلكني) لتدفع بحياتي إلى الأمام. ويبدو أن المشكلة الأكبر كانت في أنني أقنعت نفسي بأنني لا أمتلك من مفاتح الإبداع ما يُمَكِّنني من إيجاد حلول عبقرية وجديدة للمشاكل البحثية التي أدرسها. ولكني لاحظت أمراً آخر مهماً في خضم تلك المعاناة: كلما كُلِّفتُ بأمر ليس فيه مصلحة شخصية لي ولا يتعلق بعملي ولا يتطلب الجلوس للقراءة في مواضيع علمية، وكان التكليف بمهمة واضحة حتى وإن كانت مستعصية عليّ لقلة خبرتي بها، كنت "أقفز الحواجز" وأفعل كل ما بوسعي لأؤدي الأمر أو المهمة على أكمل وجه أستطيعه. تأملت كثيراً في هذه الظاهرة لأواسي نفسي بأن العيب ليس في أنني كسولة ولا أحب العمل وبذل الجهد، وأن المشكلة هي في طبيعة العمل نفسه. البحث العلمي عمل يحتاج إلى حوار داخلي واضح وتسلسل أفكار منطقي، ودراسة متعمقة في موضوعات كثيرة ليتمكن الباحث من إيجاد حلول جيدة أو حتى ممكنة لمشكلته البحثية، مما يستدعي القدرة على تحمل الصمت والسكون والركوز، بل والسعي لهم. أما الأمر الأهم، فهو أن الباحث يعمل في أجواء هي غامضة بقدر ما تحتشد بالحقائق العلمية المجردة. الباحث يعمل على مشكلة ليس لها حل بَعْدُ في حقله العلمي، وهو الوحيد الذي يستطيع إيجاد حلول لها لأنه الوحيد الأكثر تعمقاً في دراستها من جميع جوانبها. لذا، بقدر ما يمتلك ناصية الحقيقة في مجاله البحثي نتيجة قراءاته التحليلية والنقدية، يكون غارقاً بذات القدر في الغموض الناجم من عدم وجود حل للمشكلة البحثية بعد، إلى أن تنجلي الأمور أمام عينيه إن امتلك النباهة والقدرة على الاستنتاج والحس الإبداعي في التفكير، فيتمكن من أن يقول "وجدتها!" ويخضع تلك ال"موجودات" للتجارب المعملية أو الإثبات التحليلي ليتأكد من أنها ليست محض وهم وخداع فكري. وأنا إنسانة أكره الغموض وأرفضه، وأستجليه إن استطعت بأي وسيلة. أنا إنسانة تقرأ نهاية الكتاب قبل أن تبدأ في قراءته حتى لا تفاجئها الأحداث، وتقرأ حبكة الفيلم (spoilers) قبل أن تشاهده لتطمئن إلى النهاية تعيسة كانت أم سعيدة، وتود لو أمكنها استجلاء الغيب لتعرف ما سينتهي إليه مآل حياتها، فكيف لي إذاً أن أصبر أمام مشكلة علمية لا حل لها ويبدو أنني الوحيدة المنوط بها تقديم الحل واستجلاء الغموض؟ إذاً ما دام الحال كذلك فأنا لا أصلح للبحث العلمي!
أعتقد صادقة أن البحث العلمي نوع متفرد من الفن؛ هو عمل إبداعي لن تخرج منه بنتيجة مثمرة ما لم تكن تحبه حقاً وتؤمن به حقاً وتؤمن بأن قدراتك العقلية والنفسية وموهبتك تؤهلك له، وفي ذات الوقت هو عمل ممنهج ذو قواعد لا بد أن تتبعها وذو أصول لا بد أن تلتزم بها، ولذا لا بد أن تكيف نفسك على روتين منضبط ومستمر من القراءة التحليلية المتوسعة والمتعمقة في موضوعك البحثي وكل ما يتعلق به، ثم الإبداع الفكري الذي سيمكنك من "تأتي بمقترح علمي جديد"، ثم التعريف المنطقي والدقيق والمبرهن لمقترحك البحثي والقياس التحليلي والعملي الممنهج لأدائه، ثم الكتابة الرصينة المنطقية والسليمة لكل ذلك. وصلت لهذه القناعة، ووصلت معها لقناعة أخرى هي أنني لا أعتقد أنني مؤهلة لعمل كهذا، كوني مزاجية وغير منضبطة وغير مبدعة وأملّ الروتين. إذاً ما دام الحال كذلك فأنا لا أصلح للبحث العلمي! وأفضل ما يمكنني أن أقوم به والحال كذلك هو عمل تنفيذي أخدم به الآخرين تكون مهامه متعددة واضحة متجددة ولابد لها من الحركة المستمرة و"قفز الحواجز" كي تُنَفَّذ - مديرة تنفيذية لقسم في شركة أو مؤسسة ما مثلاً. هو في النهاية أي عمل يبقيني بعيدة عن حواري الداخلي العقيم الخاضع لأهوائي لا للمنطق. ولكني بدأت أتساءل، هل إن وجدت هكذا عمل سأكون راضية ولن أتعرض للأزمة الوجودية التي تدفعني لأتساءل عما أحب أن أعمله حقاً؟ هل من غير الممكن أن يكون البحث العلمي في جوهره حاملاً - ولو جزئياً - للتوصيف الذي وضعته لطبيعة العمل الذي أفضل القيام به؟ وهل يعبر هذا التوصيف عن رغبة داخلية حقيقية أم عن طريق للهرب من مواجهتي الأساسية مع النفس؟ هل أنا حقاً مفتقرة للمهارات الإبداعية والمثابرة طويلة النفس التي يحتاجها البحث العلمي، أم أنا فقط أعاند حقيقة أنه لدي البذرة الأولى لتلك المهارات وكل ما عليّ فعله هو أن أغذيها بالممارسة وأطلق العنان لعقلي الذي قَيَّدْتُه عندما رسَّخْتُ فيه فكرة أنني لست مبدعة؟ هل أمتلك الجرأة إن وجدتُ العمل الذي سأسعد بالقيام به حقاً على أن أغير مساري الذي خطوت فيه خطوات كثيرة بالفعل - مثلما فعلت مارسيا لي عندما تركت العمل في مايكروسوفت لتتبع شغفها وتعمل مع فريق خان أكاديمي - وأواجه انتقادات المحيطين بي لأنني سأترك فرصة عمل جيدة ولائقة اجتماعياً؟ أسئلة كثيرة ولا إجابات شافية، أو ربما لا رغبة لدي في الوصول إلى إجابات شافية بعد، إما لأنني جبانة وأخاف المجهول أو لأنني مستنفذة الطاقة ولست في مكان جيد نفسياً في الوقت الحالي لأستقريء بواطن عقلي. 
لقد عدت إلى أرض الوطن لأنهي رسالة الدكتوراه سريعاً، وكنت ولازلت أرى أنها ليست على أعلى مستوى من المفترض أن تكونه بحثياً. ثم حان الوقت كي أتسلم عملي الجديد كعضو هيئة تدريس بالجامعة، لأجد نفسي في مواجهة أمر واقع هو أن الحديث في أن هذه الوظيفة لا تعجبني يُعدّ رفاهية لا أقدر على تحمل تكلفتها الاجتماعية والمالية. الجميع يتوقع لي أن أستمر في هذا المجال، ويراني جيدة فيه بالفعل، ولا يرون بادرة أمل قريب في أن تتحسن أحوال البلاد بما يُمَكِّن أي شخص من البحث عن فرص عمل أخرى خاصة وإن كان بالفعل يمتلك واحدة. هم يقولون أن المناخ هنا ليس مناخ بحث علمي، وأنكِ تستطيعين دوماً أن تتركي لطلابكِ الذين ستشرفين عليهم أكاديمياً أن يقوموا هم بمهمة البحث العلمي مع بعض التوجيه منكِ، وهذا غير مقبول بالنسبة لي، لأن قناعتي كانت دوماً أن المشرف الأكاديمي لا بد أن يكون ضابطاً لإيقاع أداء طلابه، وأن يكون أكثر شغفاً وإلماماً بالنهج والموضوع البحثي من الطالب، حتى مع كون المشرف لا يملك الحل للمشكلة البحثية. ثم أجد آخرين يحثونني على أن أعمل بمواضيع بحثية ليست من صميم تخصصي بزعم أن البحث العلمي عملية موحدة بأدوات تحليلية وتطبيقية لا تختلف كثيرا باختلاف الموضوع، وهذا أيضا غير مقبول بالنسبة لي، لأنني اكتشفت بالممارسة الفعلية أن العمل في مواضيع بحثية جديدة وبعيدة عن التخصص يحتاج لتركيز وتفرغ واجتهاد طويل الأمد لا يتماشى مع إيقاع العمل المزدحم دوماً بمهام التدريس وخدمة المجتمع. إن الترقي في مراتب وظيفتي لا بد له من الجانب البحثي، الذي أرى أنه يحتاج التركيز والرغبة الحقيقية في استكشاف موضوع أو مشكلة ما، مشفوعة بالعزم على أن يكون العمل مستمراً لا يكل ولا يستسلم أمام الطرق ذات النهايات المسدودة أو التي اسكتشفها آخرون. البحث العلمي يحتاج لشخص يؤمن به حقاً ولا يعتبره وسيلة براجماتية لتحقيق أهداف أخرى، وأكاد أجزم بأن العاملين في هذا المجال يستطيعون أن يميزوا بين إنتاج أولئك الذين يحبون البحث العلمي حقاً وأولئك الذين يتخذونه وسيلة منفعية ويؤدونه "كل شيء كان". إذاً، إن لم أستشعر هذه الرغبة الصادقة وأُتْبِعها بمجهود صادق، لن أتألق وأرتقى في هذا المجال، وأنا هنا لا أتحدث عن الترقي الوظيفي، وإنما عن الارتقاء الحقيقي في مجتمع الباحثين والذي يقوم على بناء سمعة بحثية جادة ومشهود لها.
أنا أحب مجال الكمبيوتر، وأحب أن أتابع الجديد فيه، وأود لو أني أسهم في شيء من هذا الجديد، فهل كل هذا الجدال العقلي مجرد واجهة تخفي عجزي عن التعامل مع مشاكل أعمق لا علاقة لها بطبيعة العمل نفسه؟ لم أصل لهذه المرحلة بعد من التحليل النفسي، ولا أعرف بعدُ إن كنت أدفن رأسي في الرمل كما فعل "تشاندلر" ولا أريد أن أرى أن هذا العمل هو بالفعل الأفضل لي، وأنه كلما توقفت عن الرفس والشكوى ونظرت لحقيقة الأمور كلما كان ذلك أفضل للجميع. لقد جربت أن أجيب على اختبارين لتحديد مجال العمل، تماماً مثلما فعل تشاندلر، وكانت الإجابات كالتالي:


صحفي (لا)، محرر (ربما)، مدرس، مخطط استراتيجي (يبدو هذا مبهراً وغامضاً وغير ذي جدوى في الأغلب)، استشاري (نعم؛ أحب جداً أن أسدي نصائح لا أعمل بها..)، ممثل (ليت هذا كان ممكناً)، أي عمل في التسويق أو الاتصالات (لا)، أو عمل في البحث والتطوير!



فنان (سبق التعبير عن انطباعي)، مؤرخ (ليت هذا كان ممكنا، لكان أمراً رائعا..)، موظف بنكي (لا بالطبع)، قاص (لست جيدة في نظم الحبكات)، أستاذ جامعي، مصور (نعم)، طبيب بيطري (طبيب قطط ربما؟)، كاتب قانوني (لا بأس بهذا أبداً)، مصمم رسوم (ربما)، مطور محتوى إلكتروني (نعم ولم لا؟)، مطور ويب (لا)، منتج (من أين المال؟ إلا إن كان إنتاجا تنفيذيا)، مدير (نعم، أنا برج الأسد في النهاية..)، اخصائي تغذية (سأصف الشوكولاتة والبيتزا والمعكرونة لكل الناس. لا أظن)، في مجال الإعلانات (يحتاج لإبداع لا أظنني أمتلكه)، في مجال التمريض (سأبكي كثيرا وأقرف كثيرا. إنهم ملائكة حقاً من يقومون بهذا العمل).

يبدو أنه لا مفر في الأمد القريب، على الأقل حتى أعرف حقاً ما أريد وأخشوشن استعداداً لمواجهة عاصفة الانتقاد المجتمعي. لا بد أن أواجه قدري، وأتعلم كيف أحقق الامتياز في عملي.

Tuesday, February 19, 2013

معضلة الانتماء

"ولكنّك سرعان ما تفيقين
على صوت المعلّمة يذكّرك منذ أول الصباح
بأن ترسمي خريطة للوطن و تلوّنيها
وأن تحفظي ثرواته و توزّعيها
ولكن ليس هذا وطنك لترسميه و تحفظيه
فوطنك المفترض في شهادة ميلادك
طلبت منك المعلّمة أن تسبّيه"

 
المقتطف السابق من نثرية كنت كتبتها في 2009، قبل سفري المرتقب إلى كندا، أصف فيها أوائل وعيي بمراهقتي، وبعض مشاهد من أيامي بالمدرسة الإعدادية في طرابلس - ليبيا. المشهد المقتبس هنا حدث في عام 1990، إبان غزو العراق للكويت. كنا في حصة الجغرافيا نحفظ عن ظهر غيب وبالرسم التفصيلي توزيع الثروات المعدنية والمائية والنفطية لليبيا وأفريقيا، وكانت كراسة الواجب المنزلي خاصتي تحفة فنية برسوماتها وألوانها. عندما حدث الغزو، أخذت ليبيا جانب العراق، وأخذت مصر جانب الكويت، بل وأرسلت قوات عسكرية لنصرتهم، ولذا أصبح لزاما علينا في حصة الوعي القومي أن نصدح بموقف مناصر لموقف ليبيا، وبالتبعية مناهض لموقف "الدول المعادية"، ومن ضمنها مصر. كان كل طالب وطالبة مطالبين في إطار "الدرس" أن يقفوا ويكيلوا سيلا من الشتائم والانتقادات لتلك الدول المعادية. وهكذا، لأثبت ولائي المطلق للدولة التي علمتني وأكرمتني، كان عليّ أن أقف وأشتُم مصر وأنتقد موقفها الخائن لقضية العروبة.. كان الهاجس الأكبر عندي أن أنفي عن نفسي تهمة الانتماء لهذا البلد الخائن وأثبت الولاء لموقف بلدي الأصل ليبيا. وكان هذا سهلا بشكل لا يصدق. كان الانتماء لمصر بالنسبة لي حتى ذلك الوقت إسميا؛ لم أعش في مصر، ولم "أشرب من نيلها" كما تغنت شيرين، ولم أتمرغ في طيب ثراها وأتشبع من وهج تاريخها العريق. كانت مصر لي أرضا موعودة؛ يوما ما سأعود إليها لأجد الجنة بانتظاري والراحة من كل عناء واضطهاد وفقر. وحتى عندما كانوا يقولون لي في المدرسة أنها بلد الراقصات، تخوفت أني سأعود إلى ماخور، لا جنتّي الموعودة، ولكن الفكرة كانت أفضل من البقاء على أطراف أصابعي أحارب كل يوم لأرسخ انتمائي لبلد لا يعتبرني مواطنة أصيلة. ومع ذلك، وقفت وشتمت مصر. لا زلت أتذكر الحماس المحموم الذي كان ينتابني وأنا أهتف ضدها في الفصل مع زملائي، وكيف أن هذا كله تمثّل لي وقتها هراءً أحمق بلا معنى، ولكنه كان مع ذلك أمرا ضروريا حتى لا يترصدني أحد بزجاجة عصير حمراء يلقيها على مريولي اليتيم، كما حدث ذات مرة من زميلة مشفوعا بالسُّبّة الخالدة "يامصرية يافوّالة". ولَكَم كرهت الفول وامتنعت عنه بكل جوارحي حتى أنفي عن نفسي هذه التهمة "الحقيرة"..
عندما عدت إلى مصر أخيرا، ظللت أسبوعا كاملا في مدرستي فاقدة للنطق، أنظر بذهول لما حولي ومن حولي. الإيقاع سريع ولا يُحتمل، والصراع على النجاح في المدرسة شرس ومقيت. كنت أنظر حولي فأرى المحجبات في كل مكان، وأرى زميلاتي ينظرن لي في استهجان واستنكار عندما أتحدث عن أبناء خالتي الذين ألعب معهم. أسأل نفسي "أين الراقصات؟" ولا أجد إجابة. أرى عالما مزدحما خانقا مليئا بالضوضاء وقصور الثقافة التي لا بد لها من اشتراك والدروس التي لا ترحم أحدا. أرى هذا كله وأسأل نفسي: أين جنّتي؟ أين الفصل الهادئ الذي يحصل كل طالب فيه على الاهتمام والتقدير؟ أين كتبي التي تركتها ورائي في بيتي القديم؟ وعندما حصلت على أول زجر من مدرسة التاريخ عندما لم أستطع تذكر تسلسل الأسرات الفرعونية المرعب في طوله وتفاصيله كرهت التاريخ الفرعوني والمصري برمّته. أخذتني الدوامة وانخرطت في السباق المحموم، وإن ظللت أحتفظ باستقلالي عن التيه في دوامة الدروس الخصوصية. صرت أتفاخر بأني لم أعش في مصر ولذا لا أنتمي إليها: "أنا بلا انتماء أيها السادة! ما أروع هذا!" ثم أسأل نفسي: ما معنى الانتماء حقا؟ "يعني إيه انتماء؟"
ظل هذا السؤال يحيرني بين الحين والآخر، ولكني كنت مستمتعة بأن لا إجابة له وأنني أكون مميزة طالما بقيت هكذا "أنا بلا انتماء! الانتماء قيد وضعف! أنا إن وجب أن أنتمي فسأنتمي لله ثم للعمل!" وقد كان الطرح الأخير أحد الاتجاهات الحديثة في إيجاد صيغة عامة للانتماء تعلو فوق الانتماء للوطن الضيق وتخرج لرحابة الانتماء للدين والخالق، ثم لمبادئ العمل والاجتهاد، وربما الأصدقاء، ولكن أبدا ليس للأرض والوطن. ومرت الأيام وبدأت أفيق تدريجيا من صدمة التعليم الثانوي، حتى تخرجت من الجامعة وتم تعييني بالكلية التي درست بها. كان حماسي للعمل لا يحده شيء، وكنت أعمل وأعمل وأعمل متأملة أنني أقدم فائدة ولو بسيطة للطلاب وللكيان الذي أعمل به. ورغم أننا درسنا في كيان افتراضي ليس له مبنى على الأرض، إلا أن اعتزازنا بهذا الكيان كان يرقى للاعتزاز القومي. وحتى عندما مررنا بفترة صعبة من الإدارة التي لم تكن ترقى لطموحنا الذي كنا نحلم به للمكان، ظللنا نحلم بأن نعود له يوما ما وبيدنا القرار والصلاحيات لكي نصلح ما فسد فيه ونعلي من اسمه ومكانته بين الكيانات الجامعية الأخرى. وقتها فقط أدركت أحد معاني الانتماء؛ أن تشعر بأن المكان لك، ولك فيه حق لا يسقط بالتقادم أو الابتعاد. ولكن الأهم أن لك في المكان حلم، حلم تعتنقه كدين وتؤمن به بكل جوارحك وتؤمن بأنك قادر على تحقيقه مهما طال الزمن وبعدت الفرصة. أعدتُ النظر مِن حولي، وتأملت في حال بلادي. هل تستحق مني فرصة ثانية أعيد فيها أواصر الانتماء لِجَنَّة موعودة أخلقها أنا؟ كانت الصلة واهنة، ولم أكن أهتز لها طربا، ولكني أقنعت نفسي أنه من الضروري أن يكون لكل إنسان انتماء وطني إلى أرض ما، يراها مهد أحلامه ويصبو لأن يشيخ فيها بعد أن يعمرها بما استطاع من جهد وعمل. وقتها بدأت أقرأ نجيب محفوظ والحكيم وحسين هيكل، الذين كانت رواياتهم صميمة في مصريتها، فأردت أن أتعلم منها مفردات هذا البلد الذي أنتمي إليه بالمولد والعائلة ولا أشعر نحوه بالعاطفة والحب. أوغلتُ في القراءة عن حقب التاريخ المصري عَلَّني أشعر بذلك الوهج يضيء بداخلي. قرأت متفرقات عن المماليك دون أن أدرك بشكل كامل البعد التاريخي والسياسي لدولتهم؛ فقط بهرتني الأسماء والأحداث التي سبقت وعاصرت مذبحة القلعة. أحببت الآثار الإسلامية ورأيت فيها تجسيدا حسيا لأحداث التاريخ المصري، وانبهرت بالقاهرة الخديوية وقرأت سيرة الأسرة العلوية. قرأت قليلا في التاريخ القبطي، واطلعت في استحياء على بعض من التاريخ الفرعوني. كل هذا ولا شيء يتحرك فيّ ويهفو لهذا البلد. ارتبطت بأماكن في القاهرة وطنطا والمحلة كانت تعبق بروائح ذكريات أحبها، ولكن مجموعها لم يساو الكل الوطني. سمعتُ بوجوب الانتماء للدين أولا قبل الوطن وسخافة الترسيمات الحدودية بين أقطار الأمة العربية، وأعجبتني الفكرة، ولكني لسبب ما رأيت أنها ناقصة. نعم الانتماء للدين فقط وإعلاؤه على كل ما هو سواه فكرة ناقصة، لأنها تعني أن تنتمي لمليار ونيف نسمة على وجه البسيطة لا يربطك بهم إلا العقيدة؛ لا أرضَ تجمعهم ولا بعدَ مكانيّ يَحُدُّهم، ولوجب أن يكون من السهل عليّ في ليبيا أن أنتمي دونما خوف من اضطهاد جذوري المصرية. وما معنى أن أنتمي لديني بالأساس؟ أهو أن أعيش فيه أم أن أعتنقه أم أن أنصره على ما سواه؟ الدين ليس مكانا؛ الدين فكرة يعتنقها العقل عن اقتناع، ولنصرة الدين لا بد أن يكون في خطر، وأن يكون له أعداء، وأنا لم أر أعداء لديني أشد من معتنقيه، الذين لا يتحركون إلا بالصياح إذا ما سمعوا بما يمس "الدين" الذي هو لهم أصل الانتماء. ثم أنا لا أرى أنهم يعتزون مثلا بإسلام الأفارقة، ودوما ما كنتُ أُصدم بالنظرة العنصرية لهم، ما يهدم الفكرة من أساسها. ثم سمعتُ بوجوب الانتماء للعروبة والقومية العربية، والانتماء للعروبة أمر جميل وله امتداد جغرافي ملموس على الأرض يعد بالقوة والنماء إذا ما كان استثمار الانتماء العروبي صادقا، ولكن لا أحد يسعى حقا للتوحد خلف لواء العروبة؛ المصريون يحبون أنهم فراعنة، واللبنانيون يحبون أنهم فينيقيون، والمغاربة يحبون أنهم برابرة وأمازيغ، واليمانيون يحبون أنهم حِمْيَرِيُّون، وهكذا دواليك. سمعت بعدئذ بالانتماء الوطني، الذي يلتزم بالحدود التاريخية للقطر، وكان السياق منطقيا لمصر، التي لم تتغير حدودها ذات البعد التاريخي كثيرا. أعلم أن الكثيرين يتباكون على أن عبد الناصر تسلم مصر من الملكية ومن ضمنها السودان وسيناء، ليفقد الاثنين، ولكن أيها القوم لقد كان اسمها "مصر والسودان"! هناك مصر، وهناك سودان! وحدتهما ربما كانت سياسية واقتصادية، ولكنها بالتأكيد ليست قائمة على شراكة لا تفصلها الحدود والتقاليد والتاريخ. حتى سيناء وغرب مصر، يغلب عليها الطابع القبلي الذي ليس أصيلا في السمات المصرية - وأنا هنا لا أمس فكرة وقيمة وحق المواطنة لكل مصري داخل حدود القطر. تبدت لي بعد هذا كله الفكرة التي خلاصتها أن انتماء مصر قد عبر عنه هيرودوت عندما قال أن مصر "هبة النيل". مصر هي حقا هبة النيل؛ يدين له ساكنوها بالحياة، ويمدون منه شرايين وبحيرات فرعية ليتمددوا ولو هونا خارج شريطه الطيني الثري بالخيرات، ويمتزج ذلك الطين بالأقدام والأيدي وأطراف الملابس في عناق محموم لا يفهمه - بل ويزدريه - "ولاد الناس النظيفة". خارج النطاق المكاني للنيل تجد القفر والحياة المجترحة من الرمل والصناعات الحديثة؛ حياة جافة كالرمل بها القليل من الروح التي تصارع لتحافظ على مصريتها. ولكن الروح المصرية الأصيلة عالقة بذلك الشريط الضيق حوله. الطين عالق بالجسد المصري لا يمحوه حتى الوضوء، بينما الرمل كينونة خفيفة لطيفة لا تعلق بشيء من الإنسان ولا يعلق بها الإنسان. الطين ناعم وحنون وطيب، والرمل خشن وقاس وجارح. لقد عشت في الرمل أول عمري، وها أنا اعيش في الطين الآن، ولذا أعرف الفرق جيدا. كنت أقرف من منظر الطين على أطراف الفلاحين ومن اتساخ ملابسي به، والآن لا أدري، ولكني لا أهرع لمحو لآثاره عني كما كنت من قبل. حتى عندما شردت بعيدا بأفكاري عن النيل وتأملت في سكان المحافظات الساحلية الشرقية، وجدت لهم نكهة مميزة ومختلفة، مصرية لكن ليست بالضرورة نيلية خالصة؛ هم أيضا مرتبطون بشريان مائي هو القناة، التي يجري فيها ماء البحر مختلطا بعرق ودماء المصريين "الفلاحين" الذين حفروها. الجينات المصرية هناك، والطين "المؤسس" هناك في قاع القناة، ولكن الجينات لم تعد تماثل نكهة النيل؛ هي بنكهة الدم والعرق والبذل والكفاح. يتمتع سكان القناة بجينات المصرية الناطقة بالمرح والموسيقى والسمر والعمل الحر، ولكن الطين لا يعلق بأطرافها. الجينات على ضفتي النيل تمتد ضاربة عميقة في جلدة الأجداد، ولا تطفر على السطح إلا قليلا في الأبناء الساكنين على ضفة القناة.
لقد حاولت بعد هذا كله أن أندمج في السياق التاريخي المصري وأقنع نفسي أنه امتدادي الأزلي، ولكني أراني أنبهر كالمستشرق، دون أن يرسخ الطين والتاريخ عميقا في قدمي ويلصقني للأرض. حتى عندما سافرت إلى كندا وعرفت بالتجربة الفارق بين بلد عشوائي على أطراف المدنية الحقة وبلد كل شيء فيه بنظام، لم أتمكن من أن أنتصر لانتماء إلى النظام والعمل الجاد والنظافة واحترام المواطن، وفضلت أن أجرب حظي مع الطين مجددا علّها تفلح هذه المرة. عدت وأنا أسأل نفسي بعد هذا كله، غير قادرة على الإجابة عن السؤال، تماما كما لم يستطع أسامة أنور عكاشة في مسلسله الباحث عن الهوية المصرية "أرابيسك" التي عرف فقط أنها ليست سلطة من كل حقب التاريخ. أسأل نفسي ولا أجد قلبي يخبرني بإجابة شافية: هل أنا عربية؟ مصرية؟ نيلية؟ ليبية؟ إسلامية؟ حاسوباتية أنتسب لِكُلِّيَّتي؟ أبوخيرية لعائلة أبي؟ صقراوية لعائلة أمي؟ هل أنا ذلك كله والانتماء في حقيقته طبقات بعضها فوق بعض ولا يغني بعضها عن بعض؟ هل انتمائي المصري الذي أحاول جاهدة أن أرسخه في لا وعيي يحمل أي معنى ذا قيمة لمستقبلي؟ هل يعاني من تغربوا في بلدان النفط مثل ما أعاني من الهواجس الانتمائية السوفسطائية؟ هل معرفة الأصل مهمة لهذه الدرجة؟ هل أكون أفضل حالا إن عرفت أنني في الأصل من الأشراف أو من الأقباط مثلا؟ ولم ذلك؟ ولم يجب عليّ أن أكون سعيدة إن عرفت ذلك؟ هل مصر بوتقة تصهر كل من فيها بطابع مميز ليس خليطا من كل طبقات التاريخ، وإنما هو مزيج فريد "مصري"؟ ولم ليس الحال كذلك في السعودية مثلا وهي التي استوعبت أمواج الحجيج الذي استوطنها منذ قديم الزمان، فنجد السعودي القبلي والحضري والبخاري والألباني و.. و..؟ ولكن قد يكون لهذا السؤال الأخير تتمة في حديث قادم إن شاء الله. حتى ذلك الوقت، لا زلت لا أحب الفول، ولا آكله إلا مضطرة.

أختم حديثي بحديثين عن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم:

لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ ، قَالَ : "أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ."

"إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن."
  
وآخر عن بلال ابن رباح - أول من قرأت سيرته من الصحابة الأكرمين:

ذهب بلال -رضي الله عنه- يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما "أنا بلال وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تزوجونا فالحمد لله، وان تمنعونا فالله أكبر."

 ثم أختم بالخطبة العصماء التي ختم بها أرابيسك:


المهم نعرف احنا مين و أصلنا ايه
ساعة ما نعرف احنا مين ؟
هنعرف احنا عايزين ايه
و نبدأ .. ونتكل على الله

Template by:
Free Blog Templates