Thursday, March 8, 2012

الأدوار المتكافئة والتوازن الحلم

أسعدني الحظ عندما كنتُ في كندا لاستكمال جزء من دراسة الدكتوراه أن كنتُ جزءاً من فريق العمل المُنَظِّم لمؤتمر "احتفال أونتاريو بالنساء العاملات في مجال الحوسبة" الأول الذي أقيم في جامعة كوينز، والذي يتبع نموذج المؤتمر الشهير "گريس* هوپر للنساء في مجال الحوسبة". وأسعدني الحظ أيضاً أن حضرتُ فعاليات المؤتمر للسنة التالية وقت أن أُقيم في جامعة تورنتو. وفي إحدى الكلمات الافتتاحية، تحدثت السيدة ساره فلين، والتي تعمل كمُحَلِّلة لنظم الأعمال في أحد أكبر البنوك في كندا، عن تجربتها الشخصية التي ساعدتها للوصول إلى هذا المنصب، فقالت إنه عندما أصبح عملها هي وزوجها معاً عائقاً أمام تواجدهما بشكلٍ مُرْضٍ مع أبنائهما، ومؤثراً على توازنهما الشخصي، كان لابدّ من نقاشٍ حول ما يُمكنهما عمله لتحسين الوضع لِكُل الأطراف. كان العنصر الأساسي للنقاش هو تحديد مَنْ مِنهُما يُمكنه أن يُؤَجِّل طموحه العملي في الوقت الراهن للبقاء مع الأبناء، دون أن تتضرّر فُرص عمله على المدى البعيد. وكذا جرى الإتِّفاق على أنْ يأخذ الزوج إجازة من طموحه لمدة خمس سنوات، يتفرَّغُ خلالها للتَّواجُد مع الأطفال في تلك السنّ التي يحتاجون فيها الإشراف الأُسري المُتكامل - بما يشمله ذلك من القيام بالمهام المنزلية - في الوقت الذي تعمل فيه زوجته على تحقيق طموحها العملي. بعد انتهاء السنوات الخمس، تَدَارَس الزوجان الموقف مُجدَّداً، وتبادلا الأدوار، حتى تجاوز الأبناء السنّ الحرجة وأصبح من الممكن الاستغناء عن الإشراف الكامل عليهم، ومِنْ ثَمَّ أمكن للزوجين أن يسعى كل منهما لاستكمال حياته العملية.
تأمَّلتُ في هذه القصة مَلِيّاً، كونها تعكِسُ نموذجاً غريباً حتى بالنسبة للغرب، إذ جرت العادة أن تتنازل المرأة الأم عن طموحها - إن كان لها طموح - حتى يكبر الأطفال، واعتُبِرَ هذا من نواميس الطبيعة؛ إذ كيف للمرأة أن تُفكر في جَعْل طموحها الشخصي سابقاً لرعاية أولادها؟! وكيف يفكر الرجل في أن يتنازل عن حلمه لبعض الوقت و يؤجله ليكون "أباً" ويقوم بالتربية ومهام المنزل؟! ثم تأملت في إمكانية حدوث سيناريو مشابه في مصر - أو في أي من الدول العربية، وأدركت أنه أمر مستحيل؛ فحتى مع تَقَبَُلِ المجتمع على مضض اقتحام المرأة مجالات  العمل كَنِدٍّ للرجل، فهو مازال يتوقع منها الثمن مقابل هذا "السماح"؛ والثمن هو أن تقوم المرأة العاملة بالحمل الأسري كاملاً، ولا يتوانى المجتمع في تقريعها إن بدا منها التقصير في أيٍّ من الواجبات التي يتطلبها هذا الحِمْل. ورغم وجود النموذج الرجل الذي لا يمانع في أن يقوم ببعض المهام المنزلية، فإنه ليس نموذجاً يمكن تعميمه، ويُنْظَرُ إليه عادةً بسخرية من النظراء، بل ومن الإعلام نفسه، الذي يُطنطن بحرية المرأة. وربما ذهب بعض الرجال الذين يحترمون الواجبات الأسرية "عن بُعْد" إلى التحجج بأنهم يرون أن الأمومة ومهام المنزل جسيمة ومقدسة، ولذا هيأ الله لها المرأة بالصبر والأناة وتحمل التكرار الروتيني، ويعزون تكاسلهم في القيام بشطرهم من هذه الواجبات إلى أنهم لن يؤدوه بنفس العظمة التي تؤديه بها المرأة. إنني هنا لا أتطرق إلى النموذج الذكوري  الرافض بشدة للقيام بهكذا مهامٍ غير ذات شأن لأنها من وجهة نظره ما خُلِقَت إلا لتقوم بها المرأة ولا تقوم بغيرها.
لقد بدا لي نموذج السيد فلين مستنيراً في جانبين أساسيين؛ إذ أن الموقف هنا تمحور حول كفاءة الطرفين - دون أولوية للرجل - خارج البيت وداخله من جانب، وواجب الطرفين "معاً" نحو الأسرة التي كَوَّناها سوياً من جانب آخر. لقد أكَّد الزوج على تَقَبُّله غير المشروط لأهمية المهام الأسرية في توفير جوٍّ من الاستقرار لجميع الأطراف داخل الأسرة بقدر أهمية العمل في توفير الراحة المادية و إشباع الطموح الفردي. وأكّد على أنَّ طموح الزوجة في هذه المعادلة الأُسريَّة ليس أقل شأناً عند التقييم لمعطيات القرار المشترك من طموحه، وأنهما "معاً" على نفس الطرف من تلك المعادلة وبنفس الأهمية، بينما تقع الأعباء والطموحات على الطرف الآخر. إن الجانب الذي يتفوق في التنوير بالنسبة لي كان أن الزوج لم يكُن يعتبر المهام البيتوتيَّة الروتينية أقل خطراً ولا أدنى مِن أن يتطوَّع لها راضياً دون أن يَستشعِرَ في أدائها مهانة لرجولته. كانت التضحية كبيرة ولا شك، ولكن التضحية تكون كبيرة أيضاً من المرأة، وهو الشيء الذي لا يتقبله المجتمع بسهولة، وإنما يطالب به باستحقاق من المرأة بينما ينظر إليه بانبهار من الرجل، كما فعلتُ أنا. إن العبرة هنا تتلخص في أن القيام بمهام الأسرة ليس مقبرة مؤقتة للطموح، وإنما عمل له مشاقُّه ونتائجه ومكافآته وإحباطاته، وينبغي أن يقوم به الزوجان في تساوٍ وتكافؤ. وهكذا فعل السيد فلين؛ لقد اعتبر الأسرة ربَّ عملٍ ينطوي تحت لوائه متى استدعى الأمر ذلك، ولم تَضِع سنين الرجل تلك هباءً دون أن يتقدم، فلقد كبُرَت استثماراته الأُسرية في تلك الخمس سنين بما لا يمكن أن يُقَدِّرَهُ حسابٌ ختاميٌّ لِبَنْك.
قد يكون تعامل أسرة فلين مع هذا الموقف تعاملاً پراگماتيّاً بحتاً قائماً على حسابات المنفعة والخسارة، ولكن الطرفين كانا فيه على قدمٍ سواء، كما وأنَّ المهام فيه كانت على قدمٍ سواء. عندما ننظر إلى ذات الأمر هنا في بلادنا، لا يبدو وكأن هناك خلافاً؛ فطموح الرجل العملي من المُسلَّمات اللازمة لاستقرار الأسرة والمجتمع، بينما طموح المرأة أمرٌ مُستحدَثٌ فَرَضَتْهُ مُستجدَّات العصر. أمّا مهام البيت والأسرة فهي أمور غير ذات شأن، يستنكِف الرجل القيام بها إلا مضطراً، وتتنكَّر لها المرأة التي تريد أن تلحق بالحركة النسويَّة. وحتى حينما تستلزم الظروف الاقتصادية التي تسود مجتمعنا أن يُصبح عمل المرأة ضرورة حياتية لبقاء الأسرة، فإن كثيراً من الرجال لا يرون أنّ هذا يجب أن يشكل فارقاً في قناعاتهم بتقسيم الأدوار - وليس تقاسمها - فيصبح لزاماً على المرأة أن تُوَفِّق بين البيت والعمل بعصا سحرية، بل وأن تُدخل الرجل على ذات الطرف من المعادلة مع البيت والعمل ليصبح هو ذاته أحد الواجبات التي يجب عليها الاعتناء بها. إن المتأمل لتاريخ عمل المرأة في القرن العشرين قد يلاحظ انقسامه لثلاث موجات: لقد بدا في الموجة الأول أنّ تعريف الطموح ارتبط دوماً بالعمل خارج المنزل، فيصبح بذلك المنزل بأبنائه و مهامه عبئاً و قيداً لابدّ من تَجَنُّبِه أو قَصْرِه لِتكتمل فكرة التحرُّر للطرفين. ثم بدا في الموجة الثانية وكأن هناك تحدياً نسوياً في أن تقوم المرأة بالمهمتين جميعاً؛ فتنتصر في معركة العمل خارج المنزل وتقوم بمهام الزوجة والأم على أكمل وجه. وعندما بدا هذا انتحاراً بطيئاً لأعصاب المرأة إذ بالموجة الثالثة - والتي تنسحب لتستمر في بدايات القرن الواحد والعشرين - تتمثل في اختيار كثير من بنات اليوم لأحد الأمرين: العمل أو الأسرة. وأصبح الأمر وكأن الوصول لمرحلة التوازن في هذه المعضلة هو مشكلة ومهمة المرأة وحدها، وكأن الرجل يطير في سربٍ مُنفصل.
عندما عَلَّقَ السيد فلين عمله مؤقتاً ليعتني بالبيت ودعم عمل زوجته، ووضع نفسه معها في نفس الطرف من المعادلة، كان العامل الفعّال والتجسيد العملي لتلك الجملة الرنّانة المُستهلَكة التي تقولها النساء الناجحات عادة في الخطب الرسمية: "ما كنت لأنجح وأتقدم لولا دعم زوجي." وكان الاتفاق الهادئ العقلاني الخالي من التشنج مؤكداً على أن مصلحة الأسرة التي أسسها الزوجان تعلو فوق كل شيء، فكان هرم أولوياتهم هو: أبناؤنا، ثم العمل، وكلانا فيه على السواء، وتَمَثَّلَ عامل المفاضلة في توزيع الأدوار في من يمكن لطموحه الانتظار قليلاً. أمّا الأهم، فهو أن كل الأدوار مهمة، وليس هناك دور يعلو على دور، ولا جنس يعلو على جنس. تحكُمُنا جميعاً الكفاءة والأولويات، ولا تحكم النساء فقط!

هامش الختام: كانت إحدى النقاط الختامية لفعاليات المؤتمر، والتي أُثيرت في إحدى الحلقات النقاشية، ذلك الهاجس الذي تَشَكَّلَ في وجدان النساء على مر عقود والمُتَمَثِّل في الحاجة الدائمة لإثبات أنفسهن في العمل وقلقهن المستمر من التعرض لِلَّوْم والتقصير، و كان من أهم نتائج هذا الهاجس أنّ "أدائي لن يُحترم إلا إذا قمت بالعمل كالرجال - بل وأكثر من الرجال"، وأنّ "من المهم أن أَضَعَ عَنِّي المُعَامِلات المُشَكِّلَة لِتَكْوين المرأة كالعاطفة والاهتمام والرقة، و أخشوشن‘." وتوصَّلْنا لنتيجة مفادُها أنَّ خطأ المرأة الأساسي كان دوماً في اعتقادها أنّ تكوينها كامرأة يحوي من عناصر الضعف ما يجب سحقه، أو إخفائه والتنصل منه على أقل تقدير كي تتقدّم في مجالات العمل و الحياة. وهذا من وجهة نظري ظلمٌ كبير وإذعان لِفَرْضٍ فَرَضَهُ المجتمع مقابل أن يمنح المرأة حق المساواة. إنّ تكوين المرأة يمنحُها امتيازات تنافسية بما يُسبِغه على أدائها من نكهة خاصة تتجلَّى فى الدفء والاهتمام والتفاني الذي توليه للعمل، تماماً بنفس القدر الذي تكرسه للبيت. ولكي تستوي هذه المعادلة الجمالية ويحصُل المجتمع على أفضل ما يمكن أن تقدمه النساء، لابد أن نقدر جميعاً - وبخاصة النساء! - أنّ المرأة متميزة كما هي، وليس عندما تؤدي العمل كالرجال. ولهذه الخاطرة بقية لاحقة.

Template by:
Free Blog Templates