Tuesday, May 10, 2011

الثوب الأزرق

في عمر الستة أشهر
ألبسوها ثوباً جديداً
أبيضَ و أزرق
و أرسلوها إلى الصحراء
لتتعلم المشي على الرمال
و تتحدّث اللغة الرمليّة
فقط لأمدٍ مؤقت
****************
وَقَفَتْ على حافة الظلّ و النور
كان الفناء مشطوراً
ثلثٌ يظله سقف من صفيح ساخن
و ثلثٌ تحرقه الشمس
تقف على الحافّة
تقفز من نورٍ للظلّ
معتقدة أنها تعبر بوابة إلى واحة خضراء
أدركت لأول مرة عندما عبرت للظل أنها هِيَ
و أن الظلّ مصنوعٌ من الأسمنت
نظرت لنفسها بتمعُّن
"هل أنتِ أنا؟"
كانت تلبس ثوباً أزرق
و بدأت الرحلة
****************
كان في الصحراء حديقةٌ و سماءٌ و مدرسة
أحبّت الحديقة
لا زالت تتذكر رائحة الحديقة
أحبت الصيف لأنه كان يجلب معه الحديقة
لم تكن تسمع، و لكنها كانت تتكلم كثيرا
و تعلمت أن تصرخ أحياناً كثيرة عندما ترى خرطوم المياه
لم يكن خرطوم المياه يسقي الحديقة
زارت الحديقة مرتين
ثم ماتت الحديقة في ظروف غامضة
*****************
كانت الدمية جالسة على كرسيّ
و كانت ترتدي ثوباً أزرق
لماذا كانت الدمية تجلس على كرسيّ؟
و لتحسم الأمر
رسمت الدمية على ورقة
و لكن الدمية الورقية لم تتحرك
عرفت كيف تحول الورق إلى أحلام
و بقيت الأحلام كسيحة
*****************
عندما ملّت من الكتب
تعلمت أن تنظر للسماء و تستقرأ خارطة النجوم
أحبت العربة المعلقة
أم كانت قوساً بلا سهم؟
ستذهب إلى السماء مرّةً لتحسم هذا الأمر
كان السلم في الفناء يرتقي بها إلى العربة
تركبها أحيانا لتهرب من الصمت
و تطير
****************
عندما أوصلها والدها أول مرة إلى المدرسة
بالثوب الأزرق
كان الوقت عصراً
و كانت المعلمة لطيفة
و الفصل جميلاً
و لكن الأولاد مزّقوا الثوب
شعرت بالرعب البارد في قدميها
نظرت إلى الساحة الرملية
و عرفت أنها لن تستطيع الهرب
و ستأكل كثيراً من التراب
لم يأت أحد ليأخذها منذ ذلك اليوم
و عاشت منذ عصر ذلك اليوم في المدرسة
*****************
وقفت في الطابور
لم يخبرها أحدٌ أن اليوم تطعيم
كانت في ذاك الوقت يتيمة
و لم تدري أن اليتيم أيضا لا بدّ أن يطعم
في الطابور اتَّضَحَ أنها لا تعرف أحداً
و أن أحداً لا يعرفها
كان الرعب بارداً .. موحشاً
انكمشت في الحائط
و انكمش الثوب الأزرق
*****************
عندما سحبوا الأرض المرصفة من تحت قدميها
صرخت .. و صرخت
كيف ستمشي من دون الأرض!
ضحكت عليها الأرض و قالت:
فقط الأيتام يضعون أيديهم على وجوههم و يبكون
فقدت منذ ذلك الحين صلابة الأرض
و غاصت في الرمل
دام التيه في الفناء الرملي سنينا ً
*****************
"إني الآن شبه امرأة"
عندئذ قالوا لها أن الجمال هو مفتاح الرضا
و كَرَّموا ملكة جمال الشتاء
و أعطوها تاجا من ذهب و لؤلؤ
نظرت إلى وجهها في نصف المرآة
المستند على طرف شباكها الصديء
كانت إلى ذلك الوقت تظن
أن المرآة تصلح فقط لتمشيط الشعر
ضحكت، و سخِرَت قبل أن يسخروا
ثم التفتت لترى عيوناً و أَيْدِيَ آثمة
تمتدّ إلى الثوب الأزرق
انطلقت
منها صرخاتٌ تستنجد
لكنها أدركت أن كاتماً للصوت يستقرّ على وجهها
هربت للداخل
و تعلّمت أنّ رعبها خير سلاح
خطَّت بالفحم الأسود على المرآة
ثم حاولت أن تمسح الخطوط السوداء
لكن وجهها رقد إلى الأبد هناك
*****************
تقف وراء الباب الخشبيّ المتهالك
و من خلفها المُدَرِّسة من وراء حائطٍ زجاجي
لا تسمع ما يدور على الجانب الآخر
تستند هي على الباب بكلّ قوتها
و لكن الباب يُكْسَر
و تدخل أفواجٌ من النمل اللّزج
تعبث بالأركان و تسأل أسئلة لزجة
تحاول هي أن تهرب
و لكن الأرض ممرات مرسومة و مُحكمة
لا مفرّ
تقع .. يتمزق الثوب .. و تتظاهر هي بالموت
بل إنها تموت فعلاً
فيمشي النمل .. واعداً بأن يعود في الغد بعد أن تصلح الباب
******************
دقّات على الباب يوم العيد
كانت تنتظر الدقّات
اختبأت وراء الباب، لقد أصبح باباً من حديد
اختبأت وراء الباب و في حجرها أرنب مذعور
"اذهبوا! لن أستطيع الخروج!"
لم تطل الدقّات
سمعت فيما بعد صوت اللعب و الضحكات
"جاء العيد"
نظرت إلى حجرها
لم تكن ترتدي إلا الثوب الأزرق
و الأرنب المذعور
******************
حان أوان الرحيل
حقاً؟!
ستترك هذا المكمن المظلم،
لتذهب و تعيش في ضوء الجنة؟!
سينتهي الوضع المؤقت؟!
لم تجد أصدقاء لتودعهم
فقط الفناء، و السماء
سَجَّتِ الثوب الأزرق على الأرض
ألقت عليه أوراق الكرم البرتقاليّة
و الوداع
******************
نسجت جناحين صغيرين
لتطير
كانت ترتديهما خلسة
و دوما ما كانت تطير لِوِجْهَةٍ واحدة
و ذات صيفٍ جميل
ظنّها بعض الصيادين طائراً حقيقياً
فأطلقوا عليها وابلاً من السهام
لم تصرخ
فقد علّمها الخرطوم القديم ألّا ترفع صوتها
حتّى لا يعلم أحد بمخبأ عقلها
حملت السهام و الجناحين
و تحاملت إلى وجهتها
فوجدت الباب مغلقاً
******************
عندما حطّ الطائر الحزين في حجرها
ضربه أبوها بالعصا ليموت
ثم أمرها أن تُولِم عليه
فعلت
و جمعت ريشه لتتسج منه جناحين
صهرت عليهما شمعاً
و صهرت شمعا في عينيها
علّقت الجناحين على الحائط
تنفست صعداءً أليمة
و تركت نفسها للظلام يقودها إلى النور
لعلّ الظلام يكون وضعاً مؤقت

Template by:
Free Blog Templates