Saturday, December 24, 2011

ويح ‏ ‏عمار! ‏ ‏تقتله الفئة ‏ ‏الباغية

كان كتاب الوعد الحق لطه حسين من الكتب التي صاحبت سنّي طفولتي وآنسَت فصول الصيف الوحيدة المتتالية. وكنت قرأته بدءاً بتلوين رسوماته، ثم المرور على بعض فقراته دون فهم، ثم حفظ بعض الجمل التي رسخت في ذاكرتي عاماً بعد عام، ثم قراءته كاملاً. ولمن لا يعرف الكتاب فهو يعرض بأسلوب متفرد لقصص بعض الصحابة الذين سطروا تاريخ الدعوة النبوية. وكان هذا الكتاب من الكتب القليلة لطه حسين التي لم تَشُبْهَا كآبة الفقر المطحون، حيث أن الصحابة الذين تناولهم الكتاب بالرصد منذ بدأ الدعوة وحتى موتهم - وإن كانوا من الفقراء الذين لم يجتمع لهم الجاه و السلطان لا قبل النبوة ولا بعدها - قد كانت حياتهم مثالا للجهاد الحق والكَبَد الجميل الذي لا يطمح المسلم في أكثر منه ليخلد في التاريخ الإسلامي. وكان لهذا الكتاب نكهة أخرى لا أحسب أن الكثيرين سيحبونها؛ إذ أنه يعرض لتاريخ الصحابة في صدر الإسلام كبشر يخطئون ويصيبون، ولا يتحرّج من ذكر قصص التاريخ التي ترصد صراعات السلطة واختلاف الآراء دون "تخوين" أو انكار لعظمتهم.
يختتم طه حسين كتابه بتناول مقتل عمار بن ياسر، ولهذا مقدمة لا بد من ذكرها كي نفهم لماذا كان مقتل عمار بن ياسر مُهِمّاً ومُستحقاً لأن يكون ختام الكتاب - وملتصقاً بذاكرتي كل هذه الأعوام. وأصل القصة يبدأ أثناء بناء المسجد النبوي الكريم في المدينة المنورة، وفي هذا يُرْوَى الحديث التالي في صحيح البخاري في كتاب الصلاة - باب التعاون في بناء المسجد:

"حدثنا ‏ ‏مسدد ‏ ‏قال: حدثنا ‏ ‏عبد العزيز بن مختار ‏ ‏قال: حدثنا ‏ ‏خالد الحذاء ‏ ‏عن ‏ ‏عكرمة ‏ قال لي ‏ ‏إبن عباس ‏ ‏ولابنه ‏ ‏علي ‏ ‏انطلقا إلى ‏ ‏أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه ‏ ‏فاحتبى ‏ ‏ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة ‏ ‏وعمار ‏ ‏لبنتين لبنتين، فرآه النبي ‏
صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فينفض التراب عنه ويقول: ‏ ‏ويح ‏ ‏عمار، ‏ ‏تقتله الفئة ‏ ‏الباغية، ‏ ‏يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. قال يقول ‏ ‏عمار: ‏ ‏أعوذ بالله من الفتن."

(وفي بعض الروايات أن الرسول الكريم كان يدعو عمار باسم أمه، فيقول "يابن سمية" وما أعظم هذا من تكريم للمرأة تتناقض معه تقاليدنا العجيبة في التحرج من ذكر اسم الأم أو الزوجة أو الأخت ..)


يذكر طه حسين هذا الحديث، ثم يستمر في سرد كيف أن حياة عمارٍ كلها تغيرت بعد هذه المقولة النبوية، فأصبح حريصاً أشد الحرص على اجتناب الفتن، مروراً بالعهود المختلفة للخلفاء الراشدين، حتى نصل إلى اللحظة الفاصلة؛ معركة صفين بين على بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين معاوية ابن أبي سفيان. ولنقرأ معاً كيف صاغ طه حسين نهاية هذا الصحابي الجليل - ومعها نهاية صدر الإسلام وبداية الدولة الأموية:

ولم يشتد عمار في شيء بعد قتل عثمان كما اشتد في مناصرة عليّ ولا سيما حين ثارت الحرب بينه و بين معاوية. في ذلك الوقت استبان الحق لنفس عمار وقلبه وضميره، ولم يشك لحظة في أن علياً و أصحابه كانوا على الحق، و في أن معاوية و أصحابه كانوا على الباطل. ولم يُقبِل عمار على حرب خالص النية فيها لله ورسوله بعد وفاة النبي كما أقبل على حرب صفين. كانت مقالة النبي له "تقتلك الفئة الباغية" قد استقرت في أعماق نفسه، وكأنها ظهرت له جلية نقية ناصعة ساطعة حين خرج مع علىّ وأصحابه يقصدون قصد صفين. هنالك لم يشكّ عمار في أن معاوية وأصحابه هم الفئة الباغية، وفي أن هذه الحرب التي كانوا ينصبونها لابن عمّ النبي إنما كانت تشبه غيرها من الحروب التي كانت قريش تنصبها للنبي نفسه يوم بدر ويوم أُحد ويوم الخندق. فخرج عمار إذن إلى حرب صفين على بصيرة من أمره، قد أخلص قلبه لله ، ووهب نفسه لله، وابتغى الشهادة في صفين كما كان يبتغيها في المشاهد التي شهدها مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم.
...
وكان عمار في ذلك الوقت قد جاوز التسعين، ولكن الناس ينظرون إليه فإذا هو قد استرد من القوة والشباب والنشاء ما لم يكن لهم عهد به من قبل. كان أسرعهم إلى الحرب وأكرههم للقعود. وأحبهم للموت وأبغضهم للحياة، وكان مستيقناً يقيناً لا يعرض له الشك أنه على حق، وأنه يقاتل في سبيل الله. وقد اشتدّت الحرب في صفين يوماً ويوماً. فلما كان اليوم الثالث قال معاوية: هذا يومٌ تتفانى فيه العرب إلا أن تدركهم خِفَّةُ العبد. يريد بالعبد عماراً، ويريد بِخِفَّتِه شدة نشاطه في الحرب واستخفافه بما تحتاج إليه من مكر وكيد وأناة.
وفي هذا اليوم قاتل عمار نهاره كله حتى ملأ قلوب الناس عجباً و إعجاباً. وكانوا يرونه شيخاً طويلاً آدم، تُرْعِدُ الحربة في يده، وهو خفيف الحركة موفور النشاط، يسعى هنا وهناك، يُحرِّض هذا وذاك، وفريق من المسلمين يرقبونه ويتحدثون ببلائه، بعضهم يصحب جيش علىٍّ ولكنه لا يقاتل كخزيمة بن ثابت الأنصاري الذي سمع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يقول لعمار "تقتلك الفئة الباغية"، ورأى عماراً يقاتل مع علىّ فهو يرقب عماراً ليرى آخرته، وبعضهم مع معاوية يشهد الحرب ولا يشارك فيها، بلغته مقالة النبي في عمار فهو يرقب عماراً و ينتظر آخرته. ومن هؤلاء هَنِيٌّ مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. في ذلك اليوم قاتل عمار وهو على رأس كتيبته حتى كانت العصر، فلما جعل الأصيل ينشر أشعته الشاحبة الحزينة على المقتتلين اشتد نشاط عمار وأخذه شيء يشبه أن يكون شغفاً بالموت، فجعل يحُثُّ من حوله على القتال و يصيح: الجنة تحت أطراف العوالي، اليوم ألقى الأحبة، محمداً و حزبه، و كان صائماً. فلما وجبت الشمس قال اسقوني. فَجِيءَ بشربة من لبن، فلما رآها ضحك و شرب ثم قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: "آخر زادك من الدنيا لبنٌ حتى تموت"، ثم جعل يُحرض الناس و يُعيد مقالته: الجنة تحت أطراف العوالي، الظمآن يَرِدُ الماء، الماء مورود، اليوم ألقى الأحبة، محمداً و حزبه.
...
وكانت راية معاوية مع عمرو بن العاص، فجعل عمار ينظر إليها ويقول: لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ثلاث مرات وهذه الرابعة. وكانت راية عليّ مع هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وكان هاشم أعور، فكان عمار يَحُثّه، يُغلِظ عليه مرة فيقول: تقدّم يا أعور، و يَرفُق به مرة أخرى فيقول: تقدّم يا هاشم فِداك أبي و أمي. وكان هاشم يقول له: رحمك الله يا عمار! إنما أنا أزحف باللواء وأرجو أن يفتح الله عَلَيَّ ويُبْلِغَني ما أريد، وإن في العجلة الهلكة. فيقول له تقدم فِداك أبي وأمي، ولم يزل به حتى يتقدم. فإذا رأى عمار صاحب الراية يتقدم بها صاح بمن حوله: من رائحٌ إلى الله! من رائحٌ إلى الجنة؟! ثم اندفع فقاتل حتى قُتِل.

وهنا نأتي لأقوى مظاهر اجتناب الفتنة حتى التيقن من الحق:

وقد رأى خزيمة بن ثابت مصرع عمارفقال: الآن استبانت لي الضلالة، ثم دخل فسطاطه فاغتسل، ثم لبس سلاحه ثم تقدّم، فقاتل حتى قُتِل.


ثم تأتي النقطة الفلسفية التي أوجدت أصل الاختلاف في تفسير الحديث النبوي عن عمار، والتي لازالت قائمة إلى اليوم :

وأما هنِّي مولى عمر بن الخطاب فقد عرف عماراً حين أسفر الصبح، فأقبل حتى دخل على عمرو بن العاص وهو جالس على سريره ومن حوله نفرٌ يتحدّث إليهم، فقال هنَي: أبا عبد الله، أُنْظُر أُكَلِّمك. فقام عمرو حتى خلا إليه. قال هني: عمار بن ياسر، ماذا سمعت فيه؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يقول "تقتله الفئة الباغية". قال هني: ها هو ذا مقتول. قال عمرو: هذا باطل. قال هني: بصُرَتْ عيني به مقتولا. قال عمرو: هلُمّ أرنيه. فذهب به حتى رآه بين القتلى. فلما رآه امتقع لونه، ثم أعرض في شق وقال: إنما قتله من أخرجه.

...
وأقبل عليٌّ فصلَّى عليه و لم يُغسله وقال: إن امرأً من المسلمين لم يعظُم عليه قتل ابن ياسر وتدخل به عليه المصيبة الموجعة لَغير رشيد. رحم الله عماراً يوم أسلم، ورحم الله عماراً يوم قُتِل، ورحم الله عماراً يوم يُبعَثُ حياً.

Sunday, December 11, 2011

عن الروحانية و القاصّ: في الذكرى المئوية لنجيب محفوظ

قرأت "زقاق المدق" في عام ١٩٩٨, ولم أكن من هواة نجيب محفوظ، إذ كنت مهووسة بالعقاد والحكيم وكتاباتهم الفلسفية، وكان أدب محفوظ بالنسبة لي ممثلاً لبلد لا أعرفها وأناس لم أرهم إلا في الأفلام؛ أفلام مأخوذة من رواياته على الأغلب. وكانت زقاق المدق أهديت إليّ من أحد الأقارب، فقرأتها في ساعة صفو. وأستطيع القول أني وقعت في غرام مصر بعد تلك الساعة؛ إذ لم يكن لدي أي نية قبل ذلك الوقت لحب بلد لم أعش فيها باكرة أيامي وسنين طفولتي. أحببت مصر "العتيقة" كما يحلو لخالي أن يسميها، وأحببت تاريخ مصر، بفرعونِيِّه وقبطِيِّه وعربِيِّه وفاطمِيِّه ومملوكِيِّه وعثمانِيِّه. وابتدأ هوسٌ أحسبه مستمراً إلى الآن بالتاريخ المصري، وحرصت على جمع و قراءة روايات محفوظ كلما وجدت الفراغ والطاقة، إذ رأيتُ فيها تجسيداً حسَّاساً - على قدر قسوته - روحانياً - على قدر حِسِّيَّتِه - لمصر والمصريين.
قرأت زقاق المدق، وإذ وصلت إلى المقطع الذي سأُدرِجُه تالياً بقليل من الاختصار، دَوَّنْتُه في يومياتي، و قررت اليوم في ذكرى ميلاد محفوظ أن أُسَجِّلَهُ في مُدَوَّنتي (مستوحية قراري من صديق عزيز، و ذكرى الحج التي لم يمض عليها كثير وقت، و حراك سياسي في بلدي تتمخض عنه آراء و جدالات). وأسترجع هنا مقولتين؛ الأولى لمُدَرِّس اللغة الإنجليزية الذي شَرُفْتُ بأن أكون تلميذته في الصف الثالث الثانوي، والذي دأب أن يقول في مَعْرِضِ مناقشاتنا لرواية "أوقات عصيبة" لتشارلز ديكنز: لا تُفْتوا عند الإجابة عن أسئلة القصة إن كان من المتاح سرد الإجابة على لسان أحد الشخصيات، إذ لن تأتوا بصياغة أعمق ولا أبلغ مما خطَّته قريحة المؤلف. أما المقولة الثانية فلذلك الصديق العزيز، في تغريدة له بمناسبة مئوية نجيب محفوظ: رغم أنواع الموت المختلفة ، نجيب محفوظ يبلغ المائة غدا. كل عام وأنت بخير يا نجيب. ‎
فلنعد إذاً إلى المقطع سالف الذكر، حيث يستعدّ "رضوان الحسيني" للسفر إلى الأراضي المقدّسة لأداء فريضة الحج، وإذ يدعو له أحد أصفيائه بالعود الحميد، يَرُدُّ الحسيني فيقول:
- أخي لا تُذَكِّرني بالعودة. إن من يقصد بيت االله وفي قلبه خاطر من خواطر الحنين للوطن حقيق بأن يُبطِل الله ثوابه ويُخَيِّبَ دعاءه .. سأذكر العودة حقاً إذا فصلتُ عن مَهبط الوحي في طريقي إلى مصر، وأعني بها العودة إلى الحج مرّة ثانية إذا أذِن الرحمن وأعان. من لي بمن يُقِرُّني ماتَبَقَّى من العمر في البقاع الطاهرة، أُمسي وأُصبِح فلا أرى إلا أرضاً تطامنت يوماً لِلَمْسِ أقدام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهواء خَفَقَت بتضاعيفه أجنحة الملائكة، ومغاني أصغت للوحي الكريم يهبط من السماء إلى الأرض فيرتفع بأهل الأرض إلى السماء، هنالك لا تطوف بالخيال إلا ذكريات الخلود، ولا يخفق الفؤاد إلا بِحُبِّ الله، هنالك الدواء والشفاء.. أخي، أموت شوقاً إلى استطلاع أفق مكة واستجلاء سماواتها والإنصات إلى همس الزمان بأركانها والسير في مناكبها والانزواء في معابدها وإرواء الغلة من زمزمها واستقبال الطريق الذي مَهَّدَهُ الرسول عليه الصلاة والسلام بهجرته فَتَبِعَتْهُ الأقوام من ثلاثمئة وألف عام ولا يزالون، وثُلُوج الفؤاد بزيارة القبر النبويّ والصلاة في الروضة الشريفة، وإنّ بقلبي من مكنون الهيام ما يَقْصُر الزمان عن بَثِّه، ولديّ من فُرَص الزُّلْفى والسعادة ما يعجز العقل عن تصوره..
- إنّ حبي للآخرة لا يدفعني للزهد في الدنيا أو التململ من الحياة، كيف لا وهي من خلق الرحمن؟ خَلَقَها الله وملأها بالعِبَر والأفراح، فمن شاء فَلْيَتَفَكَّر ومن شاء فَلْيَشْكُر، ولذلك أُحبُّها؛ أُحِبُّ الوانها وأصواتها، وليلها ونهارها، ومسرَّاتها وآلامها، وإقبالها وإدبارها، وما يدبُّ على ظهرها من حي أو يقيم عليه من جماد، هي خيرٌ خالص، وما الشر إلا عجزٌ مرضيٌّ عن إدراك الخير في بعض جوانبه الخفية، فيظنُّ العاجز المريض بدنيا الله الظنون. لذلك أقول لكم إنَّ حب الحياة نصف العبادة، وحب الآخرة نصفها الآخر..

ثم يذكر موت ابنه مستعبرا، و يستدرك:
- إن الله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، والحكمة خير، وسرعان ما غلبني السرور بإدراك حكمته على حزني، ولسان قلبي يقول: ربي، لقد وضعتني موضع البلاء لتختبرني وها أنا أجوز امتحانك ثابت الإيمان، مُلْهَماً حكمتك، "فاللهم شكراً"، وصار دَيْدَني إذا أصابتني مصيبة أن ألهج من أعماق قلبي بالشكر والرضا. كيف لا والله خَصَّني بالامتحان والعناية، وكُلَّما عبرت مِحنة إلى برِّ السلام والإيمان ازددت إدراكاً لما في مقاديره من حكمة وما فيها من خير وما تستحق بعض ذلك من شكر وسرور، وهكذا وَصَلَتِ المصائب ما بيني وبين حكمته على دوام لا ينقطع، فما عَدَوْتُ و وَقَرَ في اعتقادي أنَّ المصابين في هذه الدنيا هم أحبابُ الله و أولياؤه، خَصَّهُم بِحُبِّ مُقَنَّع لِيَرى إن كانو حقاً أهلاً لِحُبِّه ورحمته، فالحمد لله كثيراً..

ثم يسترجع معضلة الجزاء و الرحمة و الانتقام الإلهي، و مأساة حميدة (التي تُمثِّل السقوط في مقابل تمثيله هو للفضيلة)، ويسترسل:
وغلبني استعبار، وقُلت لنفسي مُعَنِّفاً مُتَقَزِّزاً ماذا فعلتُ - وقد آتاني الله خيراً كثيراً - لِدَفْع البلاء أو التخفيف من وَقْعِه، ألم أَتْرُكِ الشيطان يعبث بأهل جيرتي وأنا ذاهِلٌ عنه بسروري وطمأنينتي؟ ألا يكون الإنسان الطيب بتقاعده عوناً للشيطان من حيث لا يدري؟ واستصرخني الضمير المعذَّب أن أُلَبِّيَ النِّداء القديم ، وأَشُدَّ الرِّحال الى أرض التوبة مستغفراً، حتى إذا شاء الله أن أعود، عُدْتُ بقلبٍ طاهر، وجعلت من قلبي ولساني ويدي أعواناً للخير في مملكة الله الواسعة ..

كل عام وأنت بخير يا محفوظ ..

Tuesday, November 8, 2011

تنظيف البيت من الداخل

يسألني الكثير هذه الأيام: ماذا ستفعلين الآن بعد عودتك إلى مصر؟ و على هذا أجيب: سأكمل العمل في رسالة الدكتوراه. "نعم، أنا لم أحصل على الدكتوراه من الخارج، لأن الإشراف المشترك في جوهره يشترط أن أدافع عن رسالتي هنا في مصر." ولكن ما بدأت فعله قبل أن أعد العدة لاستكمال عملي كان أن نظرت في بيتي لأرى إن كان هناك ما ينبغي عليّ فعله لأخفف العبء عن أهلي. عندما دخلت بيتي ليلة عودتي إلى مصر، أسفت للحال التي وجدته عليها. كان كل شيءٍ متداعياً، وبالرغم من النظافة البادية على السطح فإن حالة البيت كانت سيئة؛ حُبُّ أهل البيت لتقليد عدم رمي الأشياء التي لا جدوى منها ولا فائدة، أجهزة خربة، بنية تحتية تعمل بالكاد، و الأكثر إيلاماً: نفسيات فقدت بهجة الحياة. و لست أخجل من أن أتحدث عن بيتي هكذا، فهو حال بيوت كثيرة، وربما "أوطان" كثيرة.

ماطلت كثيراً قبل أن أضع نفسي أمام الأمر الواقع وأبدأ العمل على بعض الإصلاح. كنت قد رتبت غرفتي ووضعت أشيائي في مكانها المناسب وأعددت العدة لأبدأ العمل على رسالتي، من دون أن أنظر لباقي البيت. كان نصحني صديق في الماضي أنه اذا لم يكن بالإمكان إصلاح البيت الكبير فأصلحي دائرتك الشخصية الصغيرة. وكدت آخذ بالنصيحة وأدير وجهي عن البيت المتداعي، ولكن عفريتاً صغيراً كامناً في داخلي أوعز لي أنني لن أهنأ بالعمل على ما يخصني قبل أن أفعل ما بوسعي لأُصلح البيت قدر ما يمكن. وهكذا، وبعد مماطلة دامت أياماً تحججت فيها بال-"jet lag"، قررت أن أبدأ بالمطبخ، والمطبخ في عُرف العارفين هو صُرَّة البيت ومفتاح صلاحه أو خرابه. وقفت في المطبخ لا أدري من أين أبدأ، ثم قررت بعد البسملة والحوقلة والحسبنة أن أتبع سياسة فَرِّقْ تَسُدْ وأُقَسِّمَه إلى مهام عاجلة ومهام من الممكن أن تنتظر، ثم شرعت في البدء في المهام كما رتبتها في دماغي. وهنا ظهر أول عائق؛ عدم رغبة أهل البيت في تغيير أي شيء! بمعنى: افعلي كل ما تريدين، لكن اتركي لي هذا وذاك لأنه من المؤكد أنه سيكون ذا فائدة في المستقبل! أشياء كثيرة لم يعد لها ضرورة ولكن حكم العادة يقضي بالتشبث بها. وكما يقول الأمريكان "فأنا جئت من هناك للتَّوِّ ولابدَّ أن أقتبس من كلامهم بما يناسب أي موقف!" I've put my foot down، أو ثَبَّتُّ قدمي في الأرض؛ كنايةً عن إصراري على موقفي بإلقاء ما لا يلزم في سلة المهملات، وانتصرت في هذه المعركة الصغيرة باستراتيجية بسيطة: أعطني مبرراً فورياً و مقنعاً لحاجتك لهذا الشيء أو أُلْقِ به!

لكنني ما أن انتهيت من أولى المهمات حتى وَجَدْتُنِي فقدت الرغبة في الإستمرار! تعبت من كمِّ الإصلاحات المطلوبة في أول ركن في المكان، وجلست جانباً في الظلام أتساءل عن جدوى ما أفعله! إنَّني مهما فعلت فسوف تذهب جهودي هباءً أمام إصرار الأخرين على إتباع "أجنداتهم" الخاصة! إن العمل المطلوب لإصلاح المطبخ وحده كثير ومليء بالتفاصيل والإحباطات، وما أن ينتهي حتى يبدأ من جديد وتلزمه المتابعة والمراجعة حتى لا يتدهور حاله إلى ما قبل "ثورتي" على أوضاعه البائسة. أحقاً أريد أن أَتَعَفَّرَ بالتراب وتَبْلَى يداي في تنظيفه وتلميعه حتى يأتي الاخرون فيهدمون في دقائق ما قمت به في ساعات و أيام؟ ثم إن فيه من المخابئ التي تتطلب عملاً كثيراً ما قد يستنفذ من جهدي أياماً متواليات، وأنا لا أحب الغرق في التفاصيل، كما أن لديَّ أشياءً أهمَّ لأقوم بها! أليس من الأفضل والأجمل والأسهل أن أبدأ في مكاني الخاص كما فعلت في كندا وأتعهده بالرعاية التي لا يُخَرِّبُها عليَّ أحد؟ وطافت الأفكار بذهني؛ مكاني الخاص، وكل شيءٍ فيه كما أحب، ولْأَنْسَى هذا البيت فالأمل مفقود في أن يُصْلَحَ كلُّه أو أن يدوم صلاحه إن أُصْلِحْ. ثم أفقت على صوت عقلي: أليس هذا خذلاناً واستسلاماً أمام التحدي؟ ألا تثقين في قدرتك على أن تُتِمِّي هذا العمل بنجاح وأن يتولد لديك الإصرار متى رأيته كاملاً أن لا تَدَعي جُهدك يذهب دونما رقابة ومتابعة؟ إن الإصرار أول درس تَعَلَّمْتُهُ بالخارج؛ النجاح ماهو إلا إصرار على التعلم رغم الإخفاقات والعوائق. وشَدَدْتُ الهِمَّة وقُمْتُ لأُكمل العمل، رغم شكاوى أمي مما أفعل. وأمي سيدة فعلت الكثير، ولكن الزمن وكثرة المشاكل أخذ من همتها الكثير. إن للشكوى لذةً تكمن في أنها تريح الإنسان من عناء بذل الجهد للتغيير مع كونها في ذات الوقت تُعفيه من ذنب الصمت عن سوء الأوضاع. ولكني تعلمت أن الشكوى تؤلم المستمع فيضيق بها وبالشاكي ذرعاً. العمل أفضل وأجمل وألذ؛ في العمل نرى نتائج ونسمع نقداً أو شكراً، و لكننا نشعر بأن البركة طرحت في وقتنا و صحتنا.

وهكذا أتممت العمل بالمطبخ - أو ما استطعت منه، إذ يتبقى لي أن أنظر في الأدراج والدواليب لأُلْقِيَ مُعظم ما بها حتى تنهال عليَّ من أمي بضع كلمات لطيفة وتدفع لي ثمن تذكرة العودة إلى كندا - وشَعُرْتُ براحة كبيرة إذ لم استسلم لأفكاري المُسْبَقة بأنه لا فائدة. أعلم أن هذا حمق، وأن الأفضل دوماً أن نبدأ من جديد على أرضٍ نظيفة مُمَهَّدة، وأعلم أن جهدي ليس كله في مكانه الصحيح وانه يلزم الكثير من العمل ليعود البيت إلى حالة جيدة، وقد لا يعود، ولكنه بيتي وبيت أهلي، و أحيانا لا بد من العمل استكمالا على ما سبق و ما هو متاح بالوضع الراهن. من الجميل أن نرد الجميل لبيت صاننا على بساطة حاله، وأن أتلقى كلمة شكر على مضض من أمي عندما رأت المطبخ نظيفاً خالياً من "الكراكيب".

عندما خرجت من المطار ليلة رجوعي إلى مصر، أخذت نفساً عميقاً وقلت: أخيراً! الهواء الملوث بالعوادم! ظن أبناء خالاتي أنني ضقتُ ذرعاً بمصري قبل أن أخطو فيها عشر خطوات. ولكن الحقيقة أنني كنت أعب مع الهواء إنتماءً لبلادي بكل ما فيها. كنت وللأسف مشتاقةً لهذا الهواء الملوث! إنه هوائي!

Monday, September 5, 2011

جاء الخريف

جاء الخريف
امرأة في أوج النضج
تشع بوهج دافئ يدغدغ الحواس دون أن يؤلمها
لا تستخفها ورود الربيع وصخب الربيع طرباً
ألوان ال"سيبيا" تناسبها أكثر من اللون الأبيض
كالشمس من وراء غلالة رقيقة
تزدهي بلون كالماضي المنثنية أطرافه و قد أذابتها أصابع يحرقها الشوق
لم يكن الخريف أبداً ليكون أبيضاً
ليس الخريف بآخر الوقت ولا موسم الموت للأشجار
إن أجمل الألوان تُزَيِّنُ الدنيا في الخريف
نسائمه التي تَضِجُّ بلهفة أشعار الشوق
لكم حملت تلك النسائم تنهدات ألم .. رائحة الأسفلت الدافئ المبتل 

نسائم الخريف ابنة هواء الشتاء القادم الذي يعانق الأرض الساخنة
يهديء من روعها الذي ألهبه الصيف، يمهد لها قسوة البرد
لتقبله راضية مانحة

جاء الخريف
امرأة لم يعد يستهويها نزق الربيع البرئ و لا اندفاع الصيف اللاهب
تعرف ما سيحدث .. تقبله في صمت هادئ
تبتسم

تراقب الناس المبتهجة بالربيع
والناس المنتشية بالصيف
وتبتسم
تعرف أن الأوج يحدث في الخريف
وأنه آخر مرفأٍ آمن للأرواح الدافئة
قبل أن يهبط الشتاء
إن أوراقها تسقط .. وسيقرأ الجميع الأسرار التي خبأتها تلك الأوراق
وقد يدوسها الناس بالأقدام
لكن رونقها سيظل يأخذ بالألباب
ستظل أوراق الخريف مختبأةً تحت الغطاء الأبيض
وستكون أول ما يراه الناس عندما ينزاح الغطاء
ويُنْسَجُ السحر من جديد

Tuesday, May 10, 2011

الثوب الأزرق

في عمر الستة أشهر
ألبسوها ثوباً جديداً
أبيضَ و أزرق
و أرسلوها إلى الصحراء
لتتعلم المشي على الرمال
و تتحدّث اللغة الرمليّة
فقط لأمدٍ مؤقت
****************
وَقَفَتْ على حافة الظلّ و النور
كان الفناء مشطوراً
ثلثٌ يظله سقف من صفيح ساخن
و ثلثٌ تحرقه الشمس
تقف على الحافّة
تقفز من نورٍ للظلّ
معتقدة أنها تعبر بوابة إلى واحة خضراء
أدركت لأول مرة عندما عبرت للظل أنها هِيَ
و أن الظلّ مصنوعٌ من الأسمنت
نظرت لنفسها بتمعُّن
"هل أنتِ أنا؟"
كانت تلبس ثوباً أزرق
و بدأت الرحلة
****************
كان في الصحراء حديقةٌ و سماءٌ و مدرسة
أحبّت الحديقة
لا زالت تتذكر رائحة الحديقة
أحبت الصيف لأنه كان يجلب معه الحديقة
لم تكن تسمع، و لكنها كانت تتكلم كثيرا
و تعلمت أن تصرخ أحياناً كثيرة عندما ترى خرطوم المياه
لم يكن خرطوم المياه يسقي الحديقة
زارت الحديقة مرتين
ثم ماتت الحديقة في ظروف غامضة
*****************
كانت الدمية جالسة على كرسيّ
و كانت ترتدي ثوباً أزرق
لماذا كانت الدمية تجلس على كرسيّ؟
و لتحسم الأمر
رسمت الدمية على ورقة
و لكن الدمية الورقية لم تتحرك
عرفت كيف تحول الورق إلى أحلام
و بقيت الأحلام كسيحة
*****************
عندما ملّت من الكتب
تعلمت أن تنظر للسماء و تستقرأ خارطة النجوم
أحبت العربة المعلقة
أم كانت قوساً بلا سهم؟
ستذهب إلى السماء مرّةً لتحسم هذا الأمر
كان السلم في الفناء يرتقي بها إلى العربة
تركبها أحيانا لتهرب من الصمت
و تطير
****************
عندما أوصلها والدها أول مرة إلى المدرسة
بالثوب الأزرق
كان الوقت عصراً
و كانت المعلمة لطيفة
و الفصل جميلاً
و لكن الأولاد مزّقوا الثوب
شعرت بالرعب البارد في قدميها
نظرت إلى الساحة الرملية
و عرفت أنها لن تستطيع الهرب
و ستأكل كثيراً من التراب
لم يأت أحد ليأخذها منذ ذلك اليوم
و عاشت منذ عصر ذلك اليوم في المدرسة
*****************
وقفت في الطابور
لم يخبرها أحدٌ أن اليوم تطعيم
كانت في ذاك الوقت يتيمة
و لم تدري أن اليتيم أيضا لا بدّ أن يطعم
في الطابور اتَّضَحَ أنها لا تعرف أحداً
و أن أحداً لا يعرفها
كان الرعب بارداً .. موحشاً
انكمشت في الحائط
و انكمش الثوب الأزرق
*****************
عندما سحبوا الأرض المرصفة من تحت قدميها
صرخت .. و صرخت
كيف ستمشي من دون الأرض!
ضحكت عليها الأرض و قالت:
فقط الأيتام يضعون أيديهم على وجوههم و يبكون
فقدت منذ ذلك الحين صلابة الأرض
و غاصت في الرمل
دام التيه في الفناء الرملي سنينا ً
*****************
"إني الآن شبه امرأة"
عندئذ قالوا لها أن الجمال هو مفتاح الرضا
و كَرَّموا ملكة جمال الشتاء
و أعطوها تاجا من ذهب و لؤلؤ
نظرت إلى وجهها في نصف المرآة
المستند على طرف شباكها الصديء
كانت إلى ذلك الوقت تظن
أن المرآة تصلح فقط لتمشيط الشعر
ضحكت، و سخِرَت قبل أن يسخروا
ثم التفتت لترى عيوناً و أَيْدِيَ آثمة
تمتدّ إلى الثوب الأزرق
انطلقت
منها صرخاتٌ تستنجد
لكنها أدركت أن كاتماً للصوت يستقرّ على وجهها
هربت للداخل
و تعلّمت أنّ رعبها خير سلاح
خطَّت بالفحم الأسود على المرآة
ثم حاولت أن تمسح الخطوط السوداء
لكن وجهها رقد إلى الأبد هناك
*****************
تقف وراء الباب الخشبيّ المتهالك
و من خلفها المُدَرِّسة من وراء حائطٍ زجاجي
لا تسمع ما يدور على الجانب الآخر
تستند هي على الباب بكلّ قوتها
و لكن الباب يُكْسَر
و تدخل أفواجٌ من النمل اللّزج
تعبث بالأركان و تسأل أسئلة لزجة
تحاول هي أن تهرب
و لكن الأرض ممرات مرسومة و مُحكمة
لا مفرّ
تقع .. يتمزق الثوب .. و تتظاهر هي بالموت
بل إنها تموت فعلاً
فيمشي النمل .. واعداً بأن يعود في الغد بعد أن تصلح الباب
******************
دقّات على الباب يوم العيد
كانت تنتظر الدقّات
اختبأت وراء الباب، لقد أصبح باباً من حديد
اختبأت وراء الباب و في حجرها أرنب مذعور
"اذهبوا! لن أستطيع الخروج!"
لم تطل الدقّات
سمعت فيما بعد صوت اللعب و الضحكات
"جاء العيد"
نظرت إلى حجرها
لم تكن ترتدي إلا الثوب الأزرق
و الأرنب المذعور
******************
حان أوان الرحيل
حقاً؟!
ستترك هذا المكمن المظلم،
لتذهب و تعيش في ضوء الجنة؟!
سينتهي الوضع المؤقت؟!
لم تجد أصدقاء لتودعهم
فقط الفناء، و السماء
سَجَّتِ الثوب الأزرق على الأرض
ألقت عليه أوراق الكرم البرتقاليّة
و الوداع
******************
نسجت جناحين صغيرين
لتطير
كانت ترتديهما خلسة
و دوما ما كانت تطير لِوِجْهَةٍ واحدة
و ذات صيفٍ جميل
ظنّها بعض الصيادين طائراً حقيقياً
فأطلقوا عليها وابلاً من السهام
لم تصرخ
فقد علّمها الخرطوم القديم ألّا ترفع صوتها
حتّى لا يعلم أحد بمخبأ عقلها
حملت السهام و الجناحين
و تحاملت إلى وجهتها
فوجدت الباب مغلقاً
******************
عندما حطّ الطائر الحزين في حجرها
ضربه أبوها بالعصا ليموت
ثم أمرها أن تُولِم عليه
فعلت
و جمعت ريشه لتتسج منه جناحين
صهرت عليهما شمعاً
و صهرت شمعا في عينيها
علّقت الجناحين على الحائط
تنفست صعداءً أليمة
و تركت نفسها للظلام يقودها إلى النور
لعلّ الظلام يكون وضعاً مؤقت

Friday, February 18, 2011

خواطر عن الثورة المصرية

كُلُّكُم راعٍ، و كُلُّكُم مسئولٌ عن رَعِيَّتِه

لطالما أبهرتني عبقرية عمر التي خطَّتها قريحة العقاد، و لقد قرأتها مراراً منذ أن كنت في السادسة، و كل صيف، إذ لم يكن لديّ ما يُؤنس وحشتي في الغربة إلا قراءة أمثال تلك الدُّرر من الكتب. قرأت عبقرية عمر في ذلك السن الغضّ، فأحببت عمر، و أحببت العقاد، و أحببت العدل الذي لا تهاون فيه و لا مواربة. و تعلّمت في سنٍّ مبكرٍ مبدأً بسيطاً مباشراً: الحاكم لا بدّ و أن يكون عادلاً، و لا بدّ أن يتولّى شئون رعيته و يُدرك ما ينقصهم، و يعمل على النهوض بشأنهم و إعلاء أمرهم بما فيه صلاحهم و صلاح الأمّة ككل.
و عندما عدت إلى مصر، رأيت الصراع متجسدا في كل مكان على أشياء كنت أحسبها من توافه الأمور. لِمَ يتصارع الطلاب في صَفِّي على درجة يدخلون بها كلية الطب؟ لِمَ تقف الناس في طوابير من العرق و نفاذ الصبر و الحيلة؟ لِمَ تمتليء الصحف بأخبار الفساد و سرقات الكبار تلميحاً حيناً و تصريحاً حيناً؟ لِمَ تمتليء كاريكاتيرات أحمد رجب و مصطفي حسين بالتهكم على أحوال السياسة و المجتمع؟ ثم نكست الرأس عن كل هذا و انشغلت أنا أيضاً بتوافه الأمور، و لم أعد أقرأ، و لم أعد أتساءل لماذا لسنا في مدينة فاضلة يسودها العدل. تقبّلت أن هناك الكثير من الفقر، و الكثير من الجهل، و الكثير من التّهاون في الحقوق، و الكثير من الاستسلام للأمر الواقع و السير مع التيار الذي بدا جارفاً لكلّ شيءٍ جميلٍ داخل المصريين. كنت أرى الأفلام السينمائية التي تتعرّض لمظاهر الفساد في مصر فأشعر بضيق الصدر و قلة الحيلة و الرُّعب من أن تطالني صدفة تَعِسَةٌ فأُظْلَمَ من دون أن أفهم. و لم أكن أدرك أنّه في كل يوم أذهب فيه لأتعلّم فتَصْرَعَني عجلات نظام تعليمٍ يقتل النور بداخلي و لا يجعلني أفضل كنت أُظْلَم، و أنّ غيري كان محروماً حتّى من هذا التعليم الذي لا ينفع، و أنّ غيرهم لم يكن يطمح حتّى في التعلُّم، و إنّما في وجبة عشاء لأطفاله لِيَوْم.
كبرت و تَوَظَّفْت، و هذا حق أُتِيحَ لي و ربّما لم يكن لِيُتَحْ لي في نظام آخر، و لكن كانت هناك أوجه أخرى يتجلّى فيها الظلم؛ أين المنظومة الجامعية التي ستعيننا على أن ننهض بشباب الوطن لِيَتَعلّموا و ينهضوا بالوطن؟ أين الوعي الاجتماعي الذي يجعل هؤلاء الشباب و إيّانا في سعي لأن نشارك في إصلاح مجتمعنا. كنت أرى في المعظم أناساً غلبت مصالحهم الشخصية على كل شيء، و اكتشفت أن الأنانية هي السمة الفائزة، و أنّي لا أستطيع أن ألوم السَّاعينَ للمصالح الشخصية لأنّ هذا إفراز منظومةٍ طاحنةٍ لأيّ إنكارٍ للذّات. إن كنت تعمل بوازعٍ من ضميرك فَسَتَعْمَل المزيد و المزيد، و إن تَوَقَّفْتَ فأنت مُجرم و ستُحاسَب، أمّا إن كنت لا تعمل من الأساس فأنت "مفقود فيك الأمل" و ستُتْرَكُ لِحَالِك. هكذا ينجو الكُسالى و العاملون لمصالحهم و يظلُّ المجتهدون يدورون في "الساقية" إلى أن تأتيهم فرصة للهرب. و قد هرب جزءٌ مِنِّي إلى هُنا، لم يكن السبب الوحيد أنّي أردت أن أتعلّم بأسلوب جديد و في منظومة جديدة. و اكتشفتُ بعد قدومي إلى هنا ما الذي يجعل المبعوثين منبهرين بالنظام الغربي: أنك تعلم أنّه بمقدار اجتهادِك و تَحَضُّرِكَ سَيَكون تقديرُك. ما هِيَ الكلمة؟ العدْل!
عدت هنا إلى فَهْمِي الأصليّ - المثاليّ - لِفِكْرَةِ الدّولة و الحاكم، و استقر في نفسي أنّ الحاكم العادل عندما يتصدّى لولاية أمر شعبه فلا عُذر لَهُ في جهلٍ أو تخاذلٍ عن كل جهدٍ يمكن بذله للنُّهوض بحال بلاده. إن تَوَلِّيَ أمور الناس واجبٌ جسيم، و بتجنيب السياسة و ألاعيبها التي لا أفهمُها - و لا أُقدِّر من يلعب بعدم فهمِها ك"كارت" تبريرٍ للحال المُزْري الذي وصل إليه جزءٌ كبيرٌ من المصريين - فإن أقلَّ واجبٍ على الحاكم أن يَحْكُمَ ثلاثين عاماً فلا يظلّ من شعبه مدقعٌ في الفقر يفترِش الأرصفة و ينام في الشوارع عارياً من الملبس و الكرامة، في ظل دولة من المفترض أنّها تنعم بالأمن و لا تخوض حرباً تستنزِف مواردها، تلك الموارد التي يسمعُ عنها عامّة الناس فَيَتَعَجَّبون: سياحةٌ و قناةٌ بحريةٌ و استثماراتٌ أجنبيةٌ و غازٌ طبيعيٌّ و بترولٌ و عمالةٌ تملأ الوطن العربي من شرقه لغربه. من المفترض أن تحكم ثلاثين عاما فتُلْغِيَ المركزيّة في العاصمة و تتيحَ الخدمات و الاستثمارات في المُدُنِ الأخرى التي يسكنُها أناسٌ أيضاً، و تُوَسِّعَ من رقعة البلاد لينعم أبناؤها جميعاً بِيُسْرِ الحياة و لا يَسْعَوْا للتَّكَدُّسِ على ضفاف النيل الذي ضاق بساكنيه. من المفترض أن تحكم ثلاثين عاما فتنتعش الزراعة التي هي رأس مال بلادٍ حباها الله بِنِيلٍ يسقي ضفافه الخِصْبَ و الحياة. من المفترض أن تحكم ثلاثين عاما فتنشر فكراً واعياً بمعطياتنا الاجتماعية و السياسية، لا أن ترعى تفاهة في الفكر و استهلاكية في العلم و الفن و الأدب و تمجيدا للحاكم الأب. من المفترض أن تحكم ثلاثين عاما فتنشر الأمن و العدل و الرحمة بين الناس و تُعَزِّزَ من القيم الجميلة التي كانت تتّخِذُ مِنَ المصريين موطناً و تتجلَّى في أفعالهم منهجاً. من المفترض أن تحكم ثلاثين عاما فلا تكتفيَ بتقارير المُبَلِّغيَن و لا تأكيداتِ البطانة التي لا يعلمُ مدى فسادها أو صلاحها إلا الله، لا تكتفي بهذا فتنزلَ إلى شوارع بلدك و تتحرَّى أحوال رعيتك و ترى بعينك ما يأكلون - أو ما لا يأكلون - و كيف يفكرون - أو كيف توقفوا عن التفكير - و ما يشغلهم من أمور حياتهم و ما يرغبون أن تعمل عليه لِتُحَسِّنَ من تلك الحياة.
تَفَكَّرتُ في هذا كله و لم أعرف سبيلا لتصحيحه، تفكرت في هذا ثم أقنعت نفسي بعبثية الأمر بِرُمَّتِه و بِأَنَّ في الصورة عناصر أكبر من إدراكي المثالي؛ إن الحياة مليئة بالمآسي و مليئة أيضاً بالتفاهات، و طالما لم يقع عليّ ظلم بين فلا بأس هناك، و ليرحم الله المظلومين إن استحقوا الرحمة.
ثم قامت الثورة على النظام المصري الحاكم..
و لقد كنتُ في البدء أخجل مِنْ أن أدعوها ثورة، بل و لمَّا رأيت إرهاصاتها على فيسبوك - و أنا من المستخدمين المدمنين له - ضحكت، ليس سخرية من المتظاهرين و لا من مطالبهم، و لكن من عبثيَّة الأمل في أن يتغير شيء، فلطالما تظاهر المصريون في السنوات الأخيرة. و على قدر ما كان يحدوني الأمل عندما كنت أرى أن حراكاً في الماء السياسيِّ و المجتمعيِّ الراكد منذ زمنٍ طويلٍ قد بدأ يغلي تحت سطح السلبية و الصمت المغلوب على أمره، فإني كنت أقول لنفسي أنّها "القِلَّةُ" المثقفة - و التي دُعِيَتْ بعد ذلك بالقِلَّةِ المُنْدَسَّة - و أنَّ الأغلبية ستظل تصمتُ و تَجْبُن، و أنا منهم. إنَّ غايةَ آمالي كانت أن أكون مصلحةً اجتماعيّةً و أن أعمل بإتقانٍ علَّ هذا يشفعُ لي سَلْبِيَّتي. و لَمْ أحلُم بأن أرى ما حدث، و ليتني كنت هناك! إن السخرية التي انقلبت إلى انبهار، و الكفر بالأمل الذي انقلب إلى إيمان، لَهُمَا أكبرُ مِنْ أن يوصفا بالكلمات..
إنّ الذين انتقدوا ثبات الثائرين على مبدئهم فاتهم أن يُدْرِكوا أشياءَ كثيرة؛ فاتهم أن يُدركوا أن الثورة الحقيقيّة لم تكن على النظام قدر ما كانت على السلبيّة و الاستسلام للعبث بالمُقَدَّرات، فاتهم أن يُدركوا أن لو كان الثائرون قد عادوا إلى بيوتهم لكانت جذوة ذلك الأمل الذي وُلِدَ بداخلنا جميعاً قد ماتت و دُفِنَت إلى الأبد، فاتهم أن الثورة على الظُّلم ليست نزهة يعود المتنزهون منها لِيُكَرِّرُوها بعد حين كُلَّما أرادوا، و إنّما هي مخاضٌ لا بد أن تُكْتَبَ بعضُ سطوره بالدماء و التضحيات.
إن المصري بطبعه مسالم، و قد أرجع توفيق الحكيم - في يومياته كَنَائِبٍ في الأرياف - هذه الطبيعة لارتباط المصري بأرضه و زرعه، فالذي يزرع لا يُحَطِّمُ و لا "يوقف الحال". و حَوْلَ هذه الأطروحة كانت النداءات التي رأت أن تُغَلِّبَ صوت العقل و تسيير الأمور. كُلُّ هذا تغيَّرَ الآن، فالمصريُّ لم يعد مزارعاً مسالماً، و إنما أصبح مهندساً و طبيباً و موظفاً و عاملاً و تاجراً و طالباً و ناشطاً، و عاطلاً أيضا، و لذلك لم يَعُدْ من المُمكِن التنبؤ بِرَدِّ فِعله إذا ضَغَطَت عليه الظروف أكثر من اللازم، سواء كانت ظروفاً اقتصاديّة و اجتماعيّة لِرَجُلِ الشارع البسيط أو ظروف قهرٍ فكريٍّ و سياسيٍّ للمُثَقَّفِ و النَّاشط. ثار هؤلاء جميعا؛ بدأ المثقفون و الطلاب الذين يريدون مساحةً حُرّة لِوَعْيِهِم لا قهر فيها و لا قمع، و تَلَاهُمُ البُسطاء الذين يتلَخَّصُ حُلْمُهم في حياةٍ كريمةٍ لا تُشَوِّهُها الفاقة و المهانة.
و لقد تابعتُ بشغفٍ و بقلقٍ أيضاً كلَّ ما كان يحدُث، و لقد انتابتني نوباتٌ مِنْ ضحكٍ مُرٍّ يُشْرِفُ على البكاء الأَمَرِّ كُلَّما رأيتُ دعواتِ "الأب الزعيم" و "أخلاق المصريين التي تعفو" و "لا تلوموه على بطانة السوء فهو لم يكن يعرف حجم الفساد و الغُبْن الذي لَحِقَ بشعبه" و "أعطوه فرصةً أخرى لِيُصَحِّحَ الأوضاع" و "لا يجوز الخروج عنِ الحاكم، و لَحَاكِمٌ ظالم أهونُ شراً من وضعٍ أمنيٍّ غير مستقرّ". أيُّ أب؟! أيُّ أخلاقٍ تَذَكَّرَها المصريون الآن بعد أن أصبح الكثيرُ مُرْتَشين فقط لِيَتَمَكَّنوا من العيشِ بكرامة؟! أيُّ تغييب يُغْفرُ للحاكم؟! أيُّ تصحيحٍ بعد أنْ فاض الكَيْل؟! و أيُّ ظلمٍ هَيِّنٍ يستحقُّ من أجله أن يَتَحَمَّلَ الناس الجوع و الفقر و المهانة بالدّاخل و الخارج ؟! لقد انساق الناس وراء كل كلمة هَوْناً، و قد يكون لهم العذر في حالة الفزع التي أَلَمَّتْ بالبلاد، و لكن أن يلوموا الذين ثاروا على الظُّلم لأنَّهم ثاروا، و لا يُوَجِّهوا اللوم لمن أثار الذعر في الأصل، فهذا شيء استعصى عليّ فهمه و التعاطف معه.
تنازع المصريون على الشبكة العنكبوتية و غرِقوا في صراعات و تصفية حسابات و توجيه اللّوم إلى أيّ شيءٍ عكَّرَ عَلَيْهِمُ الأمن الزائف الذي تَوَهَّموا وجوده في سلبيتهم، و نسوا أنّ المعجزة قد حدثت، و أنَّ حاجز الصمت قد كُسِر، و لقد صمد الثائرون بنبل ضُرِبَت به الأمثال هنا في حين حورِبَ هُناك، و تحقَّقت لهم معجزة أخرى؛ لقد تمَّ لهم ما أرادوا! إن الفخر الذي شعرنا به هنا - و نحن لم نصنع شيئاً و لم نبذل جُهداً و لا دماً - أصبح تاجاً على رؤوسنا يَحْسُدُنا عليه الأجانب! لقد ضربوا بهؤلاء الثائرين المثل؛ في صمودهم، في دعوتهم للسلمِيَّة في التظاهر، في حمايتهم للمصلِّين مُسلمين و مسيحييِّن، في تنظيفهم لميدان التحرير في نهاية اليوم.
و لكنَّ الطريق طويلٌ و صعب، و تنظيفُ الشوارع يظلُّ أيْسر من تنظيف العقول من الأفكار السلبيّة و التبعيّة الفكريّة، و أيْسر من تنظيف التصرفات من التَّكاسُل و السعي للمصلحة الشخصية على حساب أيِّ شيء. لا يزالُ هناك الكثير مِمَّا يجب فِعْلُه، فنحن أطفالٌ نحبو الآن في دنيا رحبةٍ مليئةٍ بالطموحاتِ و الأطماعِ و التحديات، و لا بدَّ أن نكبر سريعاً - فقد صرنا بلا "أبّ" - و نَفْطِمَ أنفُسَنا بأنفُسِنا عن الاستسلام و التخاذل و الاعتماد على أكذوبة أنَّ فهم الآخرين مُنْقِذٌ لنا من الشَّتات، و لا بدّ أن نعملَ بجِدٍّ لِنُحَقِّق الرِّفْعَةَ لِبلادِنا، و لا بدَّ أن ينضج وعيُنا السياسيُّ و المجتمعيُّ لِنَسْتَحِقَّ أن نَكونّ أحراراً من وصاية "الكبار الذين يفهمون أفضل". لا بد أن نتعلَّم أن نتقبَّل على مضضٍ اختلافاتِنا، و نتعلَّم كيف نتعاونُ لِنَبْني، و الأهمّ من ذلك أن نتعلَّم كيف نَعدِل و نُقَوِّم أنفسنا.
عندما قاطعتِ امرأةٌ عُمر ابن الخطاب في المسجد لمَّا أراد أن يُقَيِّدَ حقاً من حقوقها، و لا أقول أن يأكُل حقاً من حقوقها، فقال أصابتِ امرأة و أخطأ عمر! كان هذا من باب تقويم الحاكم إن بَدَرَ مِنْهُ شُبهة الحَيْفِ عنِ الحقّ، حتّى و إن كان حقاً تافهاً كالمُهُور! و مَنْ هُوَ الحاكم الذي نتحدَّثُ عنه؟ رجلٌ كان العدْل دَيْدَنَه. رجلٌ أَبَى إحساسه بالعدْلِ أنْ يُسلمَ فلا يهدأَ حتّى يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ جزاءَ إيذائِه للمُسلِمين، و يذهبَ فَوْرَ إسلامِهِ لِيَحْتَكَّ بالكُفَّارِ كَيْ يُؤْذُوه. ذلك عدْلٌ لا مداهنةَ فيه! رجلٌ عندما طلب منه الصحابةُ أنْ يُوصِيَ لابْنِهِ بالخلافة - و ابنُهُ عبد الله ابن عمر هُوَ مَنْ هُوَ في فِقْهِهِ و عِلْمِهِ و حُسْنِ اتِّبَاعِهِ للرَّسولِ الكريمِ عليهِ الصلاة و السلام - فَيَقول عمرُ أنَّ حسْب آل الخطاب مِنَ الإمارة أن كان هو أميراً للمؤمنين، "فإن كان خيراً فَقَدْ أَصَبْنا منه، و إن كان شرّاً
فَبِحَسْبِ آل عمر أن يُحَاسَبَ مِنْهُم رجلٌ واحدٌ و يُسْأَلَ عنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحمّد، أمَّا لقد جهدت نفسي، و حرمت أهلي، و إن نجوتُ كفافاً لا وزرَ و لا أجرَ إنِّي لَسَعِيد."
و إن نجوت كفافاً لا وزر و لا أجر إني لسعيد ..
إنَّ تَوَلِّيَ أمورِ النّاس ليس بالهَيِّن، و عَلَى من يتصدَّى لهذا الواجب أنْ يَعْلَمَ أنَّه ليس لِيُشَرِّفَ المحكوم بِحُكْمِه. إنْ كان حاكِمٌ قدْ خاض حرباً لِيُحَرِّرَ شبراً مِنْ وطنِهِ فهذا واجبٌ و شرف، و لا يُنْكَرُ جِهَادُهُ و لا يُنْتَقَصُ من قَدْرِه، و لكن لن يُؤَلَّهَ و يُغْفَرَ لَهُ ما قَصَّرَ في حقِّ أبناءِ شعبه. لِلْحَاكِمِ الاحترامُ نعم، و لكن عَلَيْهِ واجبٌ ثقيلٌ دُونَهُ حِسابٌ لا بدَّ أن يكونَ عسيراً، و كما قال أحد الشبان في ميدان التحرير: إن ما فعلناه سَيُعَلِّمُ القادمَ أن يُفَكِّرَ ألفَ مرّةٍ قبل أن يظلِم شعبه إمَّا عمداً أو غفلةً و تجاهُلاً.
عاشت مصر منارةً حُرّة، و دام للمصرييّن عِزُّهُم، و أَعْلَى الله شأنَ بلادي بيْنَ الأُممِ بِيَدِ أبنائها الشُّرفاء، و جَعَلَنِي اللهُ مِنْهُمْ

Template by:
Free Blog Templates